الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

34/07/18

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ الأوامر \ الإجزاء \ إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي\
 الأمارة أو الأصل على نفس التكليف:
 قال صاحب الكفاية: ( ثم إن هذا كله فيما يجري في متعلق التكاليف، من الأمارات الشرعية والأصول العملية، وأما ما يجري في إثبات أصل التكليف، كما إذا قام الطريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها، فلا وجه لإجزائها مطلقا، غاية الأمر أن تصير صلاة الجمعة فيها - أيضا - ذات مصلحة لذلك، ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة، كما لا يخفى، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد )
 ذكرنا في بداية هذا المبحث أن الكلام عن الأمر الظاهري تارة يكون عن الأصل والأمارة الجاريين في متعلق التكليف؛ أي الجزء أو الشرط، وهذا ما فرغنا منه، وأخرى يكون عن الأصل أو الأمارة الجاريين في نفس التكليف؛ كما لو قامت أمارة على وجوب صلاة الجمعة، فعملنا على طبقها، ثم قامت أمارة على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة؛ أي قامت على تكليف آخر ولم تقم على متعلق التكليف الأول.
 هنا ذهب صاحب الكفاية إلى عدم الإجزاء مطلقا؛ أي سواء كانت الأمارة مجعولة على نحو الكاشفية أم الطريقية؛ أما على الكاشفية؛ فلانكشاف أننا مكلفون بصلاة الظهر واقعا، فلا يكون الإتيان بالجمعة مجزيا عنها. وأما على السببية، فلأن أقصاه أن الأمارة سبب في ثبوت مصلحة في مؤداها، فنصير مكلفين بواجبَين، امتثلنا بأحدهما، فبقي الآخر.
 نعم، هذا إذا لم يكن ثمة دليل خارجي على وجوب أحد التكليفين؛ كما في مثالنا؛ حيث قام الدليل على أن الواجب في اليوم خمس صلوات، فإنه بالنظر إلى هذا الدليل يمكن القول بالإجزاء.
  الجواب: إن ما ذكره صاحب الكفاية من عدم الإجزاء صحيح بناء على الكاشفية، وليس صحيحا بناء على السببية بأقسامها الثلاثة؛ فأما على السببية الأشعرية، فلا بد من الإجزاء؛ إذ لا حكم واقعي غير مؤدى الأمارة حتى يقال: هل الإتيان بمؤداها مجز عن الواقع أم لا؟
 وأما بناء على السببية المعتزلية، فلا بد من الإجزاء أيضا؛ لأن الواقع قد تبدل واضمحل على طبق مؤدى الأمارة المخالفة للواقع الأول، وبالتالي لم يعد هناك واقع مغاير للمؤدى حتى يقال: هل الإتيان بمؤدى الأمارة مجز عن الواقع أم لا؟وأما على المصلحة السلوكية، فلا بد من الإجزاء أيضا بحال انكشف الخلاف داخل الوقت أو خارجه؛ وذلك بعد دعوى تدارك المصلحة الفائتة بسلوك مؤدى الأمارة من جهة، وبيان عدم تبعية القضاء للأداء من جهة أخرى.
 الإجزاء في القطع بالأمر خطأً:
 قال صاحب الكفاية: ( تذنيبان: الأول: لا ينبغي توهم الإجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطأ، فإنه لا يكون موافقة للأمر فيها، وبقي الأمر بلا موافقة أصلا، وهو أوضح من أن يخفى، نعم ربما يكون ما قطع بكونه مأمورا به مشتملا على المصلحة في هذا الحال، أو على مقدار منها، ولو في غير الحال، غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منها، ومعه لا يبقى مجال لامتثال الأمر الواقعي، وهكذا الحال في الطرق، فالإجزاء ليس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعي أو الطريقي للإجزاء - بل إنما هو لخصوصية اتفاقية في متعلقهما، كما في الإتمام والقصر، والإخفات والجهر )
 بعد الفراغ من مبحث الإجزاء ذكر صاحب الكفاية مطلبين هما بمثابة تتمة وختمة؛ لذلك عبر عنهما ﺑ"تذنيبان". أما الأول، فهو ما أشرنا إليه في بداية هذا المبحث الرابع من أنه لو قطع المكلف بشيء ثم انكشف خلافه، فلا خلاف في عدم إجزاء الإتيان بالمقطوع به عن المأمور به الواقعي، سواء تعلق القطع بالمتعلق أم بالحكم نفسه؛ ذلك أنه ليس في القطع أمارة أو أصل ليحتمل أن وجوب متابعتهما يقتضي الإجزاء، وإنما هو مجرد تخيل لا يغير في الواقع شيئا.
 وقد ذكرنا أمثلة عديدة، منها: ما لو قطع المكلف بأن الرواية مطلقة من جهة، وأن المولى في مقام البيان، فتبين أنها مهملة من هذه الجهة. ومنها: ما لو قطع بصحة السند لاعتقاده بأن ابن سنان الذي فيه هو عبد الله الثقة، فتبين أنه محمد الضعيف.
 ثم يستثني صاحب الكفاية ما لو كان المقطوع به مشتملا على مصلحة الواقع، أو على شيء منها مع عدم إمكان تدارك الباقي، أو مع إمكان تداركه ولكن على نحو الاستحباب لا الوجوب، فإنه في هذه الصور الثلاثة يكون القطع مجزيا.
 وفيه:
 أولا: إنما قيد صاحب الكفاية قوله: "ما قطع بكونه مأمورا به مشتملا على المصلحة" ﺑ"في هذا الحال"؛ أي في حال القطع؛ ذلك أنه لو كانت المصلحة في غير حال القطع أيضا، لكان المقطوع به عِدلا للمأمور به، فيكون المكلف مخيرا بينهما.
 ثانيا: إنه لا يمكن أن يكون موضوع الوجوب هو المقطوع به المشتمل على المصلحة في حال القطع؛ للزومه الدور؛ لأن الحكم متوقف على موضوعه، والفرض أن الموضوع هو القطع، والقطع متوقف على الحكم.
 ثالثا: ثم إنه لو سلمنا بأنه يمكن ثبوتا أن يكون المقطوع به مشتملا على مصلحة الواقع، أو على شيء منها مع عدم إمكان تدارك الباقي، أو مع إمكان تداركه ولكن على نحو الاستحباب لا الوجوب، إلا أنه من أين نثبت ذلك والفرض أنه لا حكم شرعي، وإنما لدينا قطع فقط؟!
 نعم، يمكن إثبات ذلك من خلال دليل خارجي؛ كما في مسألة الإتمام والقصر؛ حيث قام الدليل على أن الإتمام المقطوع به مشتمل على مصلحة التقصير المأمور به واقعا، وليس العكس؛ فلو قطع المسافر بأن وظيفته الإتمام، فصلى صلاة رباعية، ثم انكشف له في الوقت أن وظيفته التقصير، لم تجب عليه الإعادة؛ لصحيح زرارة ومحمد بن مسلم قالا: ( قلنا لأبي جعفر: رجل صلى في السفر أربعا، أيعيد أم لا؟ قال: إن كان قُرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه ) [1] .
 وكذا في مسألة الإخفات والجهر؛ حيث قام الدليل على أن من جهر في موضع الإخفات أو العكس ثم انكشف له الخلاف لم تجب عليه الإعادة؛ لأن المقطوع بكل منهما مشتمل على مصلحة الآخر؛ وذلك لصحيح زرارة عن أبي جعفر في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقال: ( أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته ) [2] .
 الخلاصة: إن الأمر الظاهري العقلي في مورد القطع لا يجزي إلا إذا كان المقطع به مشتملا على المصلحة، وهذا ما لا يمكن معرفته إلا بدليل خاص.
 


[1] () وسائل الشيعة باب 17 من أبواب صلاة المسافر ج8، ص506، ح4.
[2] () وسائل الشيعة باب 26 من أبواب القراءة في الصلاة ج6، ص86، ح1.