الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

34/05/01

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ الأوامر \ في ما يتعلق بمادة الأمر \ الطلب والإرادة \العقاب
 العقاب:
 بناء على ما ذهبت إليه العدلية من الإمامية والمعتزلة من أن الإنسان مخير في أفعاله، وأن الإرادة ليست علة تامة للفعل، وإنما يرجع الفعل إلى اختيار النفس وسلطنتها، وهما ذاتيان له، ولا يرجعان إلى الإرادة الأزلية، بناء على ذلك لا يقبح العقاب؛ لأنه حينئذ يكون معاقبا على مختاره من الأفعال، لا على ما جُبِر عليه.
 وإنما يقبح العقاب بناء على ما ذهب إليه الأشعري القائل بالجبر، وما ذهب إليه الفلاسفة وبعض الأصوليين؛ كصاحب الكفاية والأصفهاني من أن إرادة الإنسان علة تامة للفعل، وأنها مسبوقة بالإرادة الأزلية لله تعالى حيث يكون الإنسان مقهورا عليه، وكذا يقبح العقاب بناء على ما ذهب إليه بعض الأصوليين من أن العقاب راجع إلى إرادة المكلف الكفر والعصيان، وهي راجعة إلى شقاوته التي تشكل لازما ذاتيا له.
 وقد أجاب كل من الأشعري من جهة والفلاسفة وبعض الأصوليين من جهة أخرى بعدة أجوبة، نذكر منها دليلا لكل منهما:
 الجواب الأول
 وهو للفلاسفة وبعض الأصوليين، ومفاده: إنما يقبح العقاب من المولى لو كان فعلا اختياريا له، ولكنه لازما ذاتيا للعمل القبيح؛ كما أن الإحراق لازم لإشعال النار.
 وفيه:
 أولا: لو كان العقاب لازما ذاتيا للعمل القبيح، لما انفك عنه أبدا، والحال أنه ينفك في حال عفا المولى عن عبده بقبول توبته، أو بشفاعة الشافعين.
 ثانيا: لو كان العبد مجبورا على العمل، والحال أن العقاب لازم ذاتي له، للزم لغوية إرسال الله الرسل وإنزال الكتب، وهو محال. كما يلزم انتفاء فائدة الدعاء وطلب التوبة والشفاعة.
 الجواب الثاني:
 وهو للأشعري، وقد بناه على مقدمتين:
 المقدمة الأولى: أن العقل لا يدرك الحسن والقبح، وإنما الحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه.
 
 المقدمة الثانية: الظلم عبارة عن: (التصرف في ملك الغير بدون إذنه)، وبما أن الله هو مالك كل شيء حقيقة، فلا يقع تصرفه في ملك غيره، فينتفي موضوع الظلم بالنسبة إليه.
 وعليه، فإن كان قبح العقاب ناشئا من استلزام الظلم، لم يقبح منه ؛ لأن الظلم في حقه محال { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }
 كما أنه ما من شيء واجب على الله، لكي نوجب عليه ترك عقاب عبده بحال كان مقهورا عليه، بل { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }
 وفيه:
 أولا: لو انتفى الحسـن والقبـح العقليان، لانتفى الحسن القبح الشرعيان، واللازم باطـل اتّفاقا، فالملـزوم مثله. وبيـان الملازمة: إنه لو انتفى الحسن والقبح العقليان، لانتفى قبـح الكذب حينئذ منه إذ العقل لم يحكـم بقبحه، وهو لم يحكم بقبح كذب نفسه، وما إذا انتفى قبح الكذب منه انتفى الوثوق بحسن ما يخبرنا بحسنه، وقبح ما يخبرنا بقبحه.
 كما يلزم على ذلك إفحام الأنبياء؛ إذ لا يمكن بعد تصديقهم وإن جاؤوا بالمعجزات؛ ذاك أن الداعي إلى تصديقهم استقباح العقل إغراء المكلفين بالقبيح، وذلك بتأييد مدعي النبوة كذبا بالمعجزات؛ حيث يلزم إغراء المكلفين بالانقياد إليه، فإن انتفى استقباح العقل لذلك، لم يصدق أيا من مدعي النبوة صادقا كان أم كاذبا.
 ثانيا: إن الظلم غير مختص بملك الآخرين بدون إذنهم؛ لصدق الظلم على من يسيء إلى نفسه، ومن يعتدي على عبده، والحال أنه ملكه، وإنما الظلم عبارة عن الانحراف عن الصراط المستقيم بحق النفس أو الغير.
 أما ما أشكلوه على إيجابنا ترك عقاب العبد حال كونه مقهورا، فهو مدفوع بأن المراد إدراك العقل ما أوجبه الله على نفسه مما هو يليق بحكمته وعدله؛ حيث قال تعالى: { قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ }
 والخلاصة إلى هنا أنه يقبح عقاب المكلف على عصيانه؛ لأن فعله المعاصي من اختياره، وإن كانت القدرة مفيضة من الله تعالى
 ويبقى أن نشير إلى مقالة صاحب الكفاية من أن الشقاوة والسعادة ذاتيان للإنسان، لا ينفكان عنه، فإن في هذه المقالة ما يخالف الوجدان؛ إذ الانفكاك واقع خارجا، والوقوع أكبر شاهد على الإمكان؛ حيث وجدنا أمثال الحر الرياحي الذي صدر عنه بدوًا بحق قافلة الحسين ع ما جعله من الأشقياء، ثم انتهى به الأمر إلى أن صار من السعداء؛ كما جرى على لسانه ع: ( والله ما أخطأت أمك إذ سمتك حرًّا، فأنت حر في الدنيا وسعيد في الآخرة )
 ثم إنه لو كانت السعادة والشقاوة ذاتيين، لانتفت فائدة التوبة والدعاء والشفاعة.