الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

34/04/28

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ الأوامر \ في ما يتعلق بمادة الأمر \ الطلب والإرادة \
 قال صاحب الكفاية: ( فإذا توافقتا فلابد من الإطاعة والإيمان، وإذا تخالفتا، فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان )
 حاصل هذا الكلام: إن الإرادة التشريعية للحق لا تتعلَّق إلا بالإطاعة والإيمان، فلا يمكن تعلّقها بالكفر والعصيان؛ لقبحهما، وإرادة القبيح قبيحة، وهو عليه محال.
 وعليه، إذا فرضنا تعلّق إرادته التكوينية بالإطاعة والإيمان؛ حيث تتفق الإرادتان التشريعية والتكوينية، فيلزم تحقق المراد؛ لأن الإرادة التكوينية لا تنفك عن المراد.
 وإذا فرضنا تعلّق إرادته التكوينية بالكفر والعصيان؛ حيث تتخالف الإرادتان، فيلزم أن يكون المكلف كافرا وعاصيا. وفيه إشكالان:
 الإشكال الأول: قال صاحب الكفاية: ( إن قلت: إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان، بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف؛ لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا.
 قلت: إنما يخرج بذلك عن الاختيار، لو لم يكن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية، وإلا فلا بد من صدورها بالاختيار )
 حاصل الإشكال: إن الإرادة التكوينية إذا تعلّقت بالكفر والعصيان أو بالإطاعة والإيمان، فيلزم أن تصير هذه الأربعة خارجة عن الاختيار مهما كان متعلّق الإرادة التشريعية؛ إذ المراد بالإرادة التكوينية لا ينفك عنها، فيكون المكلف مضطرا إليها. وعليه، يكون تكليفه بها، والحال أنها خارجة عن اختياره، تكليفا بما لا يطاق.
 أجاب بأن الإرادة التكوينية لم تتعلق بالفعل مطلقا، بل تعلقت به على نحو صدوره بالاختيار؛ بمعنى أن الله أراد الإيمان مثلا الصادر عن اختيار المكلف. وعليه، لا يلزم خروج صدور هذه الأربعة عن الاختيار، بل لازم صدورها عن غير اختيار، تخلّف المراد عن إرادته التكوينية، وهو محال.
 الإشكال الثاني: قال صاحب الكفاية: ( إن قلت: إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما، إلا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف؟ وقد سبقهما الإرادة الأزلية والمشيئة الإلهية، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا اختيار؟ قلت: العقاب إنما بتبعة الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما، فإن "السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه" و"الناس معادن كمعادن الذهب والفضة" )
 حاصل هذا الإشكال: إن الكفر والعصيان وإن تعلّقت بهما الإرادة على نحو صدورهما بإرادة المكلف، إلا أن إرادة المكلف - وهي العلة التامة لفعله كما عليه الفلاسفة - لما كانت ممكنة، وكل ممكن يرجع إلى علة، وعلة إرادته هي المقدمات، وهذه المقدمات معلولة لمقدمات أخرى إلى أن نصل إلى علة العلل، وليست سوى الإرادة الأزلية الإلهية، فتكون إرادة المكلف مسبوقة بها.
 وعليه، يلزم انتهاء كفر وعصيان المكلف إلى أمر خارج عن الاختيار، ألا وهي الإرادة الإلهية، فلا يكون صدور الكفر والعصيان عن إرادة المكلف بنحو الاختيار مصحِّحا لعقابه.
 أجاب بأن العقاب راجع إلى إرادة المكلف الكفر والعصيان، وهي راجعة إلى شقاوته التي تشكل لازما ذاتيا له؛ كما ورد في النبوي: "الشقي من شقي في بطن أمه"، فكما أن ذهبية الذهب وفضية الفضة لازمان لهما، فكذلك شقاوة الشقي وسعادة السعيد؛ كما ورد في مرفوعة بكر بن صالح عن أبي عبد الله: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة".
 وفيه: ليس المراد من النبوي أن الشقاوة والسعادة لازمان ذاتيان للإنسان، فإن لازم ذلك لغوية إرسال الرسل وإنزال الكتب؛ إذ ما نفع كل ذلك والحال أن الشقي شقي بشقاوة ذاتية لا يمكن أن تنفك عنه؟! وإنما المراد أن الشقي معلوم الشقاوة وكذا السعيد معلوم السعادة بالعلم الأزلي لله ويدل عليه ... ابن أبي عمير، قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر ع عن معنى قول رسول الله ص:( الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه، فقال: الشقي من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال الأشقياء، والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال السعداء )
 وأما مرفوعة بكر بن صالح عن أبي عبد الله ع : ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ) فمعناها أن طبائع الناس وقابليتاهم تختلف كما تختلف المعادن، فكما أن المعادن أصناف منها الحسن ومنها الرديء، فكذلك الناس منهم الحسن ومنهم الرديء بحسب ما يختارون ويريدون من الأعمال الحسنة أو الرديئة.
 الإنصاف: إن الإرادة مهما بلغت من الذروة، لا يتعقبها الفعل خارجا بلا توسط شيء، وإنما هناك واسطة بينهما وهو الطلب الحقيقي الذي هو عبارة عن تصدي النفس وحملتها على الفعل، وإلا فلو كانت الإرادة علة تامة للفعل، لما تخلف عنها، والحال أنهما يتخلفان؛ كما في صورة ارتعاد الفرائض القهري عند الخوف، فإن فعل الارتعاد يحصل رغم خلو الخائف من إرادة الارتعاد، بل قد تكون إرادته إيقافه.
 نعم، الإرادة مرجحة للفعل، هي بمثابة جزء العلة، وإنما يرجع الفعل إلى اختيار النفس وسلطنتها، وهما ذاتيان له، لا يرجعان إلى الإرادة الأزلية، فيندفع الإشكال.