الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

34/04/23

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ الأوامر \ في ما يتعلق بمادة الأمر \ الطلب والإرادة \
 الدليل الثالث: ما قاله الأخطل الشاعر:
 "إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعِلَ اللسان على الفؤاد دليلا"
 هذا البيت ظاهر في ثبوت الكلام القلبي النفسي، أن الكلام اللفظي مجرد دليل عليه.
 وفيه:
 أولا: لا حجية لكلام الشعراء.
 ثانيا: لعل المراد من هذا البيت أن ألفاظ الكلام تكشف عما في الضمير؛ كما ورد عن أمير المؤمنين ع: ( ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه ) [1]
 الدليل الرابع: إنه قد يأمر الآمر بشيء دون أن يريده حقيقة؛ كما في الأوامر الامتحانية التي يتوخى الآمر من ورائها امتحان المأمور في أنه مطيع أم لا، والأوامر الاعتبارية؛ كما لو أراد المولى تأديب عبده، إلا أنه يعلم أنه سيتعرض للنقد بضربه، فيأمره بفعل أمر، وهو يعلم أنه لن يمتثله؛ حيث يكون عصيانه حينئذ رافعا للنقد ومبرِّرا للضرب. فإنه في كليهما يوجد طلب حقيقي ولا توجد إرادة حقيقية.
 وفيه: إنما ينفع هذا الكلام في إثبات التغاير فيما لو كان الطلب الموجود طلبا حقيقيا، والحال أنه إنشائي، ولا خلاف على كون الطلب الإنشائي مغاير للإرادة الحقيقية، بل هذا من عالم وذاك من آخر.
 الدليل الخامس: وهو من أدلة الأشاعرة على تغاير الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية، وقد صاغه صاحب الكفاية على نحو إشكال ودفع، فقال: ( إشكال ودفع: أما الإشكال، فهو إنه يلزم بناء على اتحاد الطلب والإرادة، في تكليف الكفار بالإيمان، بل مطلق أهل العصيان في العمل بالأركان، إما أن لا يكون هناك تكليف جدي، إن لم يكن هناك إرادة؛ حيث إنه لا يكون حينئذ طلب حقيقي، واعتباره في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي، وإن كان هناك إرادة، فكيف تتخلف عن المراد؟ ولا تكاد تتخلف، إذا أراد الله شيئا يقول له: كن فيكون. وأما الدفع، فهو أن استحالة التخلف إنما تكون في الإرادة التكوينية، وهي العلم بالنظام على النحو الكامل التام، دون الإرادة التشريعية، وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلف. وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية )
 حاصل هذا الدليل: إنه بناء على القول بالاتحاد بين الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية، فإن المولى لما يأمر أهل الكفر بالأصول والفروع، ويأمر أهل العصيان من المؤمنين بالفروع؛ لا يخلو: إما أنه لا توجد إرادة حقيقية بالتكليف أم لا؛ واللازم باطل، فالملزوم، وهو اتحاد الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية، مثله في البطلان.
 وتوضيحه:
 أما على الأول: أي فيما لو لم تكن الإرادة الحقيقية موجودة، فيلزم انتفاء الطلب الحقيقي أيضا لاتحادهما، وبالتالي انتفاء التكاليف الشرعية ، وهو باطل بالإجماع.
 وأما على الثاني: أي فيما لو وُجِدت الإرادة الحقيقية، فيلزم الحصول القهري للإيمان بالنسبة لأهل الكفر، والامتثال القهري للتكاليف بالنسبة لأهل العصيان من المؤمنين؛ لأن تحقق مراده لا ينفك عن إرادته؛ لأنه قال تعالى {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [2] وهو باطل أيضا؛ لانفكاكهما وجدانا في حال العصيان.
 جواب صاحب الكفاية وبعض الأعلام:
 أولا: لا بد من بيان الفرق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية.
 أما الإرادة التكوينية، فقد عرفها صاحب الكفاية وجماعة من الأعلام على أنها: "العلم بالنظام على النحو الكامل التام"، وعرّفها بعض الأصوليين والفلاسفة بأنها: "العلم بالنظام الأصلح الكامل التام"، وعرفها بعض الفلاسفة بأنها: "الابتهاج والرضا.
 أما التعريفان الأولان: فإن السر في ذهاب من ذهب إليهما إلى التعريف ﺑ(العلم)، هو أنهم قالوا بأن إرادة الله تعالى من صفاته الذاتية، فهي متحدة مع بقية الصفات، فإنها جميعا تقوم بذاته المقدسة قياما اتحاديا عينيا، ولا شيء أنسب وأقرب من صفة (العالمية) لتفسير الإرادة بها.
 وفيه: صحيح أن الصفات الذاتية متحدة خارجا، إلا أنها متغايرة مفهوما، فمفهوم الإرادة غير مفهوم العلم، ومفهوم العلم غير مفهوم القدرة،وهكذا. وعليه، فإن تفسير الإرادة بالعلم إرجاعٌ لمفهوم الإرادة إلى مفهوم العلم، والحال أنهما متغايران.
 أما الشوق الأكيد: فهو غير متناسب مع ذاته تعالى ؛ لاحتياجه إلى مقدمات تخرجه إلى الفعلية، والحال أن إرادته فعلية من كل الجهات.
 وأما التعبير ﺑ(النظام) التام والكامل أو الأصلح في التعريف، فمرجعه إلى أن الإرادة التكوينية متعلقة بالكون، وهذا الكون خاضع بالإرادة الإلهية إلى أكمل وأصلح نظام يجري عليه العالم منذ بدء الخليقة بلا خلل أو زلل، فلا يحتاج إلى تعديل أو إصلاح؛ { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [3]
 وأما التعريف الثالث: ﺑ(الابتهاج والرضا)، فقد ذهب الفلاسفة إليه؛ لأنهم لم يجدوا أفضل من هذين المفهومين لتفسير الإرادة. وقد قالوا بأن الابتهاج الذاتي؛ أي الإرادة الذاتية، ينبعث عنه الابتهاج الفعلي؛ أي الإرادة الفعلية التي نفت الأخبار ذاتيتها.
 وفيه: كيف تعرَّف الإرادة وهي صفة ذاتية على ما ذهبوا إليه، ﺑ(الابتهاج) الذي هو صفة ذاتية، وبين (الرضا) الذي هو صفة فعلية؟!
 ومهما يكن من شيء، فإن للإرادة تعريف رابع، وهو الأصح بين التعريفات، وهو أنها: "إعمال القدرة والسلطنة"، وهو المعبر عنه بالمشيئة. والله العالم.
 هذا بالنسبة إلى الإرادة التكوينية، أما الإرادة التشريعية، فقد عرفها صاحب الكفاية وجماعة من الأعلام بأنها: "العلم بالمصلحة في فعل المكلف"، وهذا الفعل صادر عن اختيار المكلف.
 إذا عرفت ذلك، فنقول: إن الإرادة التي يمتنع انفكاكها عن المراد، هي الإرادة التكوينية، أما التشريعية فهي تتعلق بأفعال المكلفين على نحو صدورها عنهم بالاختيار؛ إذ لولا ذلك لانتفى الثواب والعقاب؛ أما الأول، فلأن الثواب مقارَن بالتعظيم والإجلال، وغير المختار لا يستحق التعظيم، فيكون في إثابته تعظيم من لا يستحق التعظيم، وهو قبيح عقلا. وأما الثاني، فلأن عقاب أحد على فعل لم يختره وإنما هو مقهور عليه، ظلم، وهو عليه محال.
 وعليه، فلا يلزم من وجود الإرادة الحقيقية الحصول القهري للإيمان بالنسبة لأهل الكفر، والامتثال القهري للتكاليف بالنسبة لأهل العصيان من المؤمنين؛ لأن هذه الإرادة تشريعية، وهي تنفك عن المراد؛ قال تعالى: { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [4] فيندفع الإشكال.
 


[1] - نهج البلاغة ج4، ص7
[2] - سورة آل عمران، الآية 47.
[3] - سورة يس، الآية 40.
[4] - سورة الكهف، الآية 29.