الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

34/01/27

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ مقدمة \ الأمر التاسع \ الحقيقة الشرعية \
 وبعد أن عرفت إمكانية القسم الثاني من الوضع التعييني على نحو أن يكون مسبوقا بالوضع، نسأل: هل هو واقع؟
 أما في الأعلام الشخصية، فلا إشكال في وقوعه، أما بالنسبة للألفاظ الشرعية، فلم يثبت أن الشارع استعملها بقصد الوضع. وهكذا يكون الوضع التعييني بكلا قسميه غير ثابت في الألفاظ الشرعية.
 هذا فيما يخص الوضع التعييني، أما بالنسبة للوضع التعيّني الحاصل من كثرة الاستعمال، فهل هو ممكن بالنسبة للألفاظ الشرعية أم لا؟ هذا ما سنبحثه بعد أن نذكر الكلام حول المراد من الحقيقة الشرعية بالوضع التعيّني.
 أقول: ذهب البعض إلى أنه يشترط في الوضع التعيّني أن تكون كثرة الاستعمال قد حصلت على لسان النبي ص وحده، بينما ذهب آخرون إلى نفي هذا الاشتراط والاكتفاء بحصول الكثرة على لسان النبي والأصحاب. والحق هو الثاني، فلا معنى لهذا التضييق، وإنما يكفي أن تكون الكثرة قد حصلت في زمن النبي وكان هو ص من المستعملين. أما لو حصلت الكثرة بعد زمانه، أو لم تُستوفَ في زمانه؛ كما لو شُرِع في الاستعمال في زمن النبي إلا أن الكثرة المطلوبة لتحقق الوضع لم تُستكمل إلا بعد زمانه ص، فلا تتحقق حينئذ الحقيقة الشرعية.
 إذا عرفت ذلك، فنرجع إلى سؤالنا: هل الحقيقة الشرعية بهذا المعنى؛ أي بالوضع التعيّني الحاصل من كثرة الاستعمال في زمن النبي، ممكنة أم لا؟ نعم، لا إشكال في إمكانها، ولكن هل يتم ذلك على أي وجه؟
 قال صاحب الكفاية: ( هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا. وأما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة، كما هو قضية غير واحد من الآيات؛ مثل قوله تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ<، وقوله تعالى: >وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ<، وقوله تعالى: >وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا< إلى غير ذلك، فألفاظها حقائق لغوية، لا شرعية، واختلاف الشرائع فيها جزءا وشرطا، لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية؛ إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى ).
 يقول صاحب الكفاية أن الكلام المتقدم عن تحقق الحقيقة الشرعية بكثرة الاستعمال إنما يتم إذا كانت الألفاظ الشرعية قد حدثت في الإسلام، لا أنها كانت قبل ذلك مستعملة، وإلا لو ثبت استعمالها من قبل بلفظها العربي لا بمعناها فحسب، تنتفي حينها الحقيقة الشرعية؛ حيث يكون استعمال هذه الألفاظ حقيقة لغوية.
 والإنصاف أن كثيرا من الألفاظ العبادية كانت مستعملة قبل الإسلام بلفظها العربي، ولذلك مثّل صاحب الكفاية بآيات تكشف عن هذا الاستعمال؛ كالصوم في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [1] والصلاة والزكاة في قوله تعالى: { وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } [2] والحج في قوله تعالى: { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } [3] لذلك أنكر من أنكر على النبي ص حج التمتع؛ ذاك أن العرب لم تكن تعرف إلا العمرة المفردة.
 إذًا، هذه الألفاظ العبادية كانت مستعملة من قبل في الأفعال العبادية وإن كانت بهيئة وكيفية مختلفة عن التي هي عليه في الإسلام، فيكون استعمال الشارع لها استعمالا لغويا. وعليه، فلا جدوى من البحث عن الحقيقة الشرعية لهذه الألفاظ، خلافا للتي قد يثبت أنها مستحدثة في الإسلام؛ كالطهارة ربما.
 هذا بالنسبة للعبادات، أما المعاملات، فلا إشكال في ثبوتها قبل الإسلام؛ فإن الشارع أمضى المعاملات السابقة على ما هي عليه، أو أضاف قيدا أو أنقص آخر، لا أنه استحدثها من رأس.
 ثم إنه، وبقطع النظر عما ذكرناه، لا ثمرة من هذا البحث حول الحقيقة الشرعية. أما الثمرة المدعاة من أنه إذا ثبت هذا الوضع على هذا المعنى الجديد، فيحمل عليه في لسان الشارع على المعنى الحقيقي؛ أي الشرعي المستحدث، وإذا لم يثبت الوضع، فيحمل على المعنى اللغوي، فإن هذه الثمرة لا وجود لها بعد حصول اليقين أن أكثر ألفاظ العبادات كانت ثابتة قبل الإسلام كحقيقة شرعية، فيكون استعمالها في الإسلام استعمالا لغويا، بل حتى لو لم نقل بثبوتها قبله، فحتما هي ثابتة كحقيقة متشرعية زمن الأئمة ع.
 وأما دعوى كمون الثمرة في الألفاظ التي جرت على لسان النبي دون الأئمة ع، فهي أيضا مدفوعة بأن ما ورد عن النبي، وإن لم يثبت بطريق الأئمة، إلا أنه ثبت بطرق أخرى؛ لوجود قرائن على أن المراد من هذه الألفاظ المعنى الشرعي الجديد.
 
 
 


[1] - سورة البقرة، الآية 183.
[2] - سورة مريم، الآية 31.
[3] - سورة الحج، الآية 27.