الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

34/01/18

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ مقدمات \ المقدمة الرابعة \ توجيه كلام العلمين
 ما زال الكلام في كون الدلالة تابعة للإرادة أم لا وذكرنا سابقا أن الالفاظ موضوعة لذات المعنى لا للمعنى زائد الارادة
 المبحث الثاني: توجيه ما حكي عن العلمين
 بعد أن أثبتنا أن الألفاظ موضوع للمعاني بما هي هي، يبقى أن نوجه ما حكي عن العلمين: الشيخ الرئيس ابن سينا، والمحقق نصير الدين الطوسي، من أن الدلالة تابعة للإرادة، فهل مرادهم ما نفيناه من أن الألفاظ موضوعة للمعنى المرادي، أم مرادهم شيء آخر؟
 قال صاحب الكفاية: ( وأما ما حكي عن العلمين: الشيخ الرئيس، والمحقق الطوسي من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة، فليس ناظرا إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة، كما توهمه بعض الأفاضل، بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية؛ أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها، ويتفرع عليها تبعية مقام الإثبات للثبوت، وتفرع الكشف على الواقع المكشوف، فإنه لولا الثبوت في الواقع، لما كان للإثبات والكشف والدلالة مجال ...).
 اختلف الأعلام في مراد العلمين، فذهب البعض، ومنهم صاحب الفصول، إلى أن مرادهما كون الألفاظ موضوعة للمعنى المرادي، بينما نفى صاحب الكفاية ذلك لما مر من إشكالات تبطل هذه الدعوى، موجها مرادهما بأن الدلالة التابعة للإرادة والمتوقفة عليها، هي خصوص الدلالة التصديقية. وتوضيحه:
 للكلام دلالات ثلاث:
 - دلالة تصورية: وهي عبارة عن خطور المعنى الموضوع للفظ في ذهن السامع بمجرد سماعه. وهذه الدلالة تتوقف على العلم بالوضع فحسب، ولا تتوقف على الإرادة، فإن السامع يتصور المعنى حتى وإن لم يكن المتكلم مريدا له، بل حتى لو صدر اللفظ من اصطكاك حجرين.
 - دلالة تصديقية أولى: وهي عبارة عن إرادة المتكلم إخطار المعنى المراد في ذهن السامع، وأن يصدقه في إرادته تفهيم هذا المعنى. وهذه الدلالة تتوقف على إرادة المتكلم التفهيمية فضلا عن علم السامع بالوضع.
 وإن قيل: كيف يعلم السامع أن المتكلم مريد للمعنى أم لا؟
 قلنا: السامع لا يخلو حاله: فإما هو عالم بإرادة المتكلم تفهيم المعنى الحقيقي، أو عالم بأنه لا يريد تفهيمه المعنى الحقيقي من خلال قرينة منفصلة ما، أو لا غير عالم بهما، وهنا نرجع إلى أصل عقلائي قاض بأن المتكلم في مقام البيان يريد المعنى الحقيقي ما لم ينصب قرينة على الخلاف.
  - دلالة تصديقية ثانية: وهي عبارة عن إرادة المتكلم إخطار المعنى المراد في ذهن السامع مطابقا للمراد من الدلالة التصديقية الأولى؛ فلو قال المتكلم: (أكرم العلماء)، وشككنا هل يريد إكرام جِدًّا كل العلماء أم بعضهم؟ حكمنا بإرادة الكل من خلال هذه الدلالة التصديقية الثانية المتوقفة على كون المتكلم في مقام البيان، وإحراز ذلك متوقف على أصل عقلائي، وهو أن الأصل في المتكلم أن يكون في مقام البيان ما لم ينصب قرينة منفصلة على الخلاف، فإذا لم ينصب القرينة تطابقت الدلالة التصديقية الأولى مع الثانية.
 ولم يُعرف هذا المصطلح بين المتقدمين من الأصوليين؛ لأن مرجع الدلالة التصديقية الأولى والثانية إلى بناء العقلاء، ولكن الحق أن في هذا التقسيم فائدة من حيث إن القرينة المنفصلة وإن لم تهدم الظهور المستفاد من الدلالة الاستعمالية، إلا أنها تزاحمها في الحجية.
 وإنما خصصنا القرينة بالمنفصلة؛ لأن القرينة المتصلة مانعة من انعقاد الظهور من رأس، فلا دلالة استعمالية لنبحث عن تطابقها مع الجدية وعدم تطابقها.
 إذا علمت ذلك، يتضح أن الدلالة التصورية تتوقف على العلم بالوضع فحسب، بينما تتوقف الدلالة التصديقية الأولى والثانية على إرادة المتكلم، وبالتالي وجه صاحب الكفاية عبارة العلمين، بأن الدلالة المقصودة في تبعيتها للإرادة هي خصوص الدلالة التصديقية، فتبقى الدلالة الاستعمالية للألفاظ موضوعة للمعاني بما هي هي بمعزل عن الإرادة.
 كلام السيد الخوئي
 أما السيد الخوئي، فقد اعتبر أن مرادهما أن اللفظ موضوع للمعنى بما هو هو، ولكن العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى مختصة بالإرادة؛ أي العلقة الوضعية مقيدة بها.
 ثم يبين السيد الخوئي أنه لا دلة تصورية على مبنى التعهد؛ لأن التعهد بإرادة معنى عند ذكر لفظ ما، يلزم أن يكون اللفظ موضوعا للمعنى، وأن تكون العلقة الوضعية مقيدة بالإرادة، فلا معنى للتعهد بمعزل عن الإرادة؛ كأن أتعهد بأنه إن صدر لفظ من إنسان نائم أو من اصطكاك حجرين أن يكون المراد معنى معين.
 ويكمل السيد الخوئي بأنه على مسلك الاعتبار أيضا لا بد من الذهاب إلى أن العلقة الوضعية مقيدة بالإرادة؛ فإنما نضع اللفظ لقصد التفهيم وإبراز المراد للغير، فإذا كان الغرض مشروطا بالإرادة؛ أي بإرادة الإبراز، فالوضع مقيد بها؛ إذ الوضع لا يمكن أن تكون دائرته أوسع من دائرة الغرض، والحال أن الوضع معلول له.
 ثم يشكل السيد على نفسه، بأنه إن كان الوضع مقيدا بالإرادة، فكيف يتبادر إلى ذهن السامع المعنى بمجرد سماع اللفظ، وإن لم يكن المتكلم مريدا؟
 يجيب: هذه ليست دلالة، وإنما نشأ الخطور من أنس حاصل بين اللفظ والمعنى. وعليه، لا دلالة إلا تصديقية، وما سمي بالدلالة التصورية، إنما هو مجرد أنس بين اللفظ والمعنى.
 وفيه:
 أولا: إن خطور المعنى في الذهن لا يحتاج إلى العلم بالوضع، فلا حاجة إلى الأنس المدعى الذي يتوقف على كثرة الاستعمال.
 ثانيا: لو كانت الدلالة تابعة للإرادة، ولا دلالة تصورية تسبق التصديقية، فلماذا يشترط أن يكون المتكلم في مقام الإفادة والبيان لإثبات الدلالة التصديقية، فإن لازم ذلك أن الألفاظ حينما وضعت لم تكن مقيدة بالإرادة، وإلا لكان اللفظ نفسه أي نفس وضع اللفظ للمعنى دالا على أن المتكلم في مقام البيان، وبالتالي تكون دلالة اللفظ على أن المتكلم في مقام البيان دلالة وضعية.
 الإنصاف: اللفظ موضوع لذات المعنى، والعلقة الوضعية بينهما مطلقة من أول الأمر، ولكن إذا تكلم المتكلم بكلام وأراد أن يكون لهذا الكلام دلالة تفهيمية عند السامع، فلا بد أن نحرز من قرينة منفصلة أنه في مقام البيان.
 ومن هنا يتضح مراد العلمين من أن الدلالة التابعة للإرادة هي خصوص الدلالة التصديقية، وبهذا يلتئم التوجيه مع ما ذهبنا إليه.