الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

34/01/14

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ مقدمات \ المقدمة الرابعة \ إطلاق اللفظ وإرادة نوعه
  كان الكلام في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه وشخصه
 وأما إطلاق اللفظ وإرادة مثله: فليس من باب الاستعمال أيضا كما ذهب إليه جماعة من الأعلام؛ لأن المثل إما كلي أو جزئي، فإن كان كليا فلا يكشف اللفظ عنه؛ لأن الفرد لا يكون وجها للكلي. وإن كان جزئيا، فلا يكشف اللفظ عنه أيضا؛ لأن الجزئي ليس كاسبا ولا مكتسَبا، فيكون من باب الإحضار أيضا.
 ومنه يتضح ما ذكره الأعلام في مبحث قراءة القرآن، من أنها لا بد فيها من قصد الحكاية الراجع إلى استعمال اللفظ في اللفظ الخاص الذي نزل به الروح الأمين على النبي ص فالقارئ يتلفظ مستعملا لفظه في اللفظ الجزئي الخاص حاكيا عنه حكاية استعمالية ... ولكن على ضوء ما ذكرنا، يتضح لك أن هذا ليس من باب الاستعمال، وإلا لورد الإشكال المتقدم، وإنما هو من باب الإحضار؛ بحيث يكون اللفظ أمارة على الجزئي الخاص الذي نزل به الروح الأمين على النبي ص.
 بقي شيء في المقام، وهو ما ذكره صاحب الكفاية في ختام الأمر الرابع؛ حيث قال: "وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك، مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعمّ شخص اللفظ؛ كما في مثل: (ضرب فعل ماضٍ)".
 أقول: الحكم في القضية لا يعم شخص اللفظ، وهو (ضرب) إذا كان المراد من الفعل الماضي هو المعنى التصوري والحدثي؛ لأن (ضرب) الواقعة في المثال مبتدأ. وأما إذا كان المراد من الفعل الماضي غير المعنى الحدثي، بل المراد منه الدلالة التصورية الشأنية، فالحكم في القضية يشمل شخص اللفظ، والله العالم.
 
 الأمر الخامس: وضع الألفاظ للمعاني الواقعية لا بما هي مرادة
 قال صاحب الكفاية: ( لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي، لا من حيث هي مرادة للافظها؛ لما عرفت بما لا مزيد عليه، من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه. هذا مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والإسناد في الجمل، بلا تصرف في ألفاظ الأطراف، مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة، لما صح بدونه )
 أقول: يقسم وضع اللفظ للمعنى على ثلاثة أقسام:
 - وضع اللفظ للمعنى بقيد وجوده الخارجي.
 - وضع اللفظ للمعنى بقيد وجوده الذهني.
 - وضع اللفظ للمعنى بما هو هو.
 أما القسم الأول، فهو غير ممكن: لأنه
 أولا: لا يمكن استعمال اللفظ إلا بتجريده من القيد الخارجي، فيصير كل استعمال بسبب التجريد مجازي.
 وثانيا: على هذا القيد لا يكون لدينا معنى كلي؛ كأسماء الأجناس؛ لأن ما في الخارج جزئي دائما.
 وأما القسم الثاني: أي وضع اللفظ للمعنى بقيد وجوده الذهني، وهو مراد من قال أن الألفاظ موضوعة للمعنى المرادي؛ حيث فسر ذلك البعض بأن المراد من المعنى المرادي؛ أي المتصور في الذهن، وفسره البعض الآخر بأنه المعنى الذي يراد إحضاره في ذهن المخاطب.
 ومهما يكن من شيء، فقد ورد الكثير من الإشكالات على هذا القسم، منها ثلاثة لصاحب الكفاية، هي:
 الإشكال الأول:
 إنه على القول بوضع اللفظ للمعنى بقيد الوجود الذهني يلزم تعدد اللحاظ؛ لأنه حال الاستعمال لا بد من لحاظ اللفظ والمعنى، ومن جملة المعنى لحاظ، فيكون لدينا لحاظان، ووجدانا لا يوجد إلا لحاظ واحد.
 الإشكال الثاني:
 يشترط في صحة الحمل الاتحاد الوجودي بين الموضوع والمحمول، فلو كان اللفظ موضوعا للمعنى المرادي؛ أي بقيد وجوده الذهني اللحاظي، للزم تجريد المعنى عن جزئه اللحاظي هذا، وإلا لتغاير الموضوع والمحمول خارجا، والحال أننا في الحمل لا نجرد شيء عن شيء.
 الإشكال الثالث:
 لو كان اللفظ موضوعا للمعنى المرادي، للزم أن لا يكون عندنا وضع عام وموضوع له عام، فإما وضع خاص وموضوع له خاص، وإما وضع عام والموضوع له خاص؛ لأن الوضع للمعنى المرادي؛ أي المعنى الموضوع له، جزئي حقيقي دائما، فينتفي الوضع العام والموضوع له العام، والحال أن التسالم قائم على وقوع هذا القسم.
 وإن قلت: لمَ لا نقول أن اللفظ موضوع للمعنى المرادي بمفهوم الإرادة، لا الإرادة الشخصية. قلنا: المراد هو الإرادة الشخصية؛ أي المعنى الملحوظ والمتصور في صقع النفس، لا مفهوم الإرادة.
 هذا ما ذكره صاحب الكفاية من إشكالات. ونذكر إشكالين آخرين:
 الأول: إنه يشترط في صحة الحمل أيضا الانطباق الخارجي، فلما كان المعنى مقيدا بالوجود واللحاظ الذهني، لا يكون ﻟ(زيد) و(قائم) في (زيد قائم) مثلا إلا في الذهن، فلا يصح حمله على الخارج إلا من خلال التجريد اللحاظي، ولكن مع التجريد يصبح الاستعمال مجازيا دائما؛ لأنه استعمال للفظ في غير ما وضع له، بعد فرض أنه موضوع للمعنى بقيد الوجود الذهني. كما أنه تلغو حكمة الوضع؛ إذ لا معنى لوضع اللفظ لمعنى ثم استعماله في غير هذا المعنى دائما.
 الثاني: إذا كان اللفظ موضوعا للمعنى مع الإرادة، لكان المعنى مركبا من المعنى مع اللحاظ؛ فلفظ (الإنسان) مثلا موضوع لمعنى الإنسان مع اللحاظ، إلا أنه سوف يأتي في مبحث المشتق أن المفاهيم لا تكون إلا بسيطة، فلا مفهوم مركب، ومن هنا نفينا الدلالة التضمنية.
 وهكذا انتفى القسم الأول والثاني من أقسام وضع اللفظ للمعنى، فتكون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي هي، لا المعنى المرادي، سواء فسرناه بالتفسير الأول أو الثاني.