الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

34/01/13

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ مقدمات \ المقدمة الرابعة \ إطلاق اللفظ وإرادة نوعه
 كان الكلام في إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ومن هنا التجأ صاحب الكفاية إلى التأويل. أما بالنسبة لإشكال اتحاد الدال والمدلول، فذكر أن التغاير الاعتباري بينهما كاف، وإن كانا متحدين بالذات. وعليه، ففي المثال المتقدم (زيد ثلاثي)، نقول: إن للفظ (زيد) حيثيتين؛ إحداهما حيثية صدوره من المتكلم، فهو من هذه الحيثية دال، والثانية حيثية خطوره في ذهن السامع، وهو من هذه الحيثية مدلول، وعليه فالتغاير الاعتباري بينهما كاف.
 وقد أيّد البعض هذا التأويل بما ورد في دعاء الصباح لأمير المؤمنين؛ حيث قال: ( ... يا من دل على ذاته بذاته )
 أقول: أما في إطلاق اللفظ وإرادة شخصه، فالتغاير الاعتباري غير كاف في موردنا لرفع إشكال اتحاد الدال والمدلول؛ ذلك أن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة علّية ومعلوليّة، وهي بذلك تقتضي الاثنينية، ولا يعقل أن يكون الشيء علة لنفسه، وقد عرفت أن اللفظ علّة لحضور المعنى في الذهن.
 أما ما ورد في دعاء الصباح، فليس من سنخ دلالة محل البحث؛ أي الدلالة اللفظية، وإنما من سنخ الدلالة العقلية؛ حيث كون ذاته تعالى تتجلى لذاته؛ بمعنى ظهور ذاته بذاته، بل من المعلوم أن الكائنات بأجمعها وبشتى أشكالها وألوانها ظاهرة بذاته المقدسة.
 ثم إنه يرد عليه أيضا أن حيثية صدور اللفظ من اللافظ لا دخالة لها في كون اللفظ دالا؛ فإن الدال هو ذات اللفظ من غير دخالة أمر آخر فيه. كما إنه لا يعتبر في المدلول كونه مرادا، فإن حيثية إرادته لا دخالة لها في المعنى.
 والإنصاف: إننا لسنا بحاجة إلى هذه التكلفات لدفع إشكال اتحاد الدال والمدلول، وإنما يكفي في دفعه أن يقال: إن من المعلوم أن الدال يُنظر إليه في الاستعمال نظرا آليا وتبعيا، بينما يُنظر إلى المدلول نظرا استقلاليا، فإذا كان اللفظ دالا على نفسه، فكان دالا ومدلولا، للزم أن يكون النظر إليه آليا واستقلاليا في آن واحد، وهو محال.
 هذا بالنسبة إلى إطلاق اللفظ وإرادة شخصه. أما بالنسبة إلى إطلاق اللفظ وعدم إرادة شيء، فقد أجاب صاحب الكفاية على لزوم تركّب القضية المعقولة من جزءين، بأن هذا الإشكال إنما يرد إذا كان الموضوع بحاجة إلى حاك عنه، وفي المقام يحضر اللفظ بنفسه في ذهن المخاطب، بلا حاجة إلى واسطة حاكية عنه. وتوضيحه:
  أغلب المعاني لكي تحضر في ذهن المخاطب لا بد لها من واسطة، وهي الألفاظ، أما الألفاظ فيكفي إلقاؤها في ذهن المخاطب لتحضر بنفسها بلا حاجة إلى واسطة؛ إذ لو لم تحضر بنفسها في الذهن، لاحتاجت إلى واسطة، فتلك الواسطة لا تخلو، إما أن تكون غير اللفظ، أو تكون لفظا. أما غير اللفظ، فقد تقدم أنه لا يفي في إبراز المقصود في كثير من موارد الحاجة. وأما إذا كانت الواسطة لفظا، فننقل الكلام إلى ذلك اللفظ، وهكذا حتى يذهب إلى غير النهاية.
 وعليه، إذا قلت: (زيد) وأنا لا أريد شيئا آخر، فقد ألقيته في ذهن المخاطب ليكون اللفظ نفسه هو الموضوع، ثم أحمل عليه (ثلاثي) مثلا.
 وفيه ما تقدم من أن القضايا ثلاثة، لفظية موطنها اللسان، ومعقولة موطنها الذهن، وخارجية موطنها الخارج، وعليه إن كانت القضية لفظية فلا بد أن تكون أجزاؤها الثلاثة من موطن اللسان، وإن كانت معقولة فلا بد أن تكون أجزاؤها الثلاثة أيضا من موطن الذهن، وإن كانت خارجية فلا بد أن تكون من موطن الخارج. وبالتالي إن كان المحمول في قضية (زيد ثلاثي) مفهوم الثلاثي المتصور في الذهن، فهو ممكن؛ لأن الموضوع ذهني لفرض أن المتكلم ألقاه في ذهن المخاطب ليحضر عنده بنفسه بلا واسطة. وإن كان المحمول خارجيا، فلا يصح الحمل؛ لأن أجزاء القضية لا بد أن تكون من موطن واحد، والحال أن المحمول خارجي والموضوع ذهني. وكذلك لا يصح فيما لو كان الموضوع خارجيا والمحمول ذهنيا.
 وقد اتضح مما تقدم أن إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ليس من باب الاستعمال، وإنما هو من باب الإحضار؛ أي إحضار اللفظ بنفسه إلى الذهن بلا واسطة.
 وأما إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه: فلم يستبعد صاحب الكفاية وغيره من الأعلام أن يكون من باب الإحضار أيضا؛ فإنه حينما أحضرنا اللفظ إلى الذهن، حضر معه النوع؛ باعتبار أن اللفظ الشخصي والجزئي أمارة لنوعه أو صنفه، فينتقل المخاطب من الشخص إلى نوعه أو صنفه، ثم يُحكم على النوع من ذلك الشخص والجزئي المرئي.
 وهناك دليل قوي على أن إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه ليس من باب الاستعمال الذي مرجعه إلى جعل اللفظ فانيا في المعنى، وحاصله: إنك قد عرفت سابقا في مبحث أقسام الوضع، أن الفرد والجزئي الحقيقي لا يمكن أن يكون مرآة للطبيعي والكلي، ولا يمكن أن يكون وجها أيضا؛ باعتبار أن الفرد والكلي، وإن كانا متحدين وجودا أو خارجا، إلا أنهما متغايران مفهوما، ومع تغايرهما وتباينهما لا يمكن حكاية الفرد بما أنه فرد وجزئي حقيقي عن الطبيعي والكلي، كيف ولازمه إمكان القسم الرابع من الأقسام الأربعة المتصورة في الوضع، وهو الوضع الخاص والموضوع له العام، مع أنه ممتنع كما تقدم.
 وعليه، فإذا امتنع ذلك، يلزمه امتناع إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أيضا، إذا كان من باب الاستعمال، وبالتالي يكون الإطلاق حينئذ من باب إحضار الفرد والحكم على نوعه أو صنفه من خلال إلقائهما في الذهن.
  وأما إطلاق اللفظ وإرادة مثله: فليس من باب الاستعمال أيضا كما ذهب إليه جماعة من الأعلام؛ لأن المثل إما كلي أو جزئي، فإن كان كليا فلا يكشف اللفظ عنه؛ لأن الفرد لا يكون وجها للكلي. وإن كان جزئيا، فلا يكشف اللفظ عنه أيضا؛ لأن الجزئي ليس كاسبا ولا مكتسَبا، فيكون من باب الإحضار أيضا.