الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

33/12/29

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ مقدمات \ المقدمة الثالثة\ الحقيقة والمجاز
 الأمر الثالث: الحقيقة والمجاز
 قال صاحب الكفاية: ( الثالث صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هو بالوضع، أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان، أظهرهما أنه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ولو مع ترخيصه، ولا معنى لصحته إلا حسنه )
 نبحث في هذا الأمر عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له؛ أي الاستعمال المجازي للألفاظ. وقد ذهب المشهور إلى أن المجاز بالوضع، ولكن وقع الاختلاف في تفسيره.
 فذهب البعض إلى أن الواضع وضع وضعا نوعيا ثانيا: بمعنى أنه بعد أن وضع لفظ (الأسد) مثلا للحيوان المفترس المعروف، وضعه مرة أخرى وضعا نوعيا ثانيا لكل ما يناسب هذا المعنى الحقيقي للأسد. وإنما قلنا أنه وضع نوعي؛ لأن الواضع لم يلحظ معنى خاصا كلحاظه الحيوان المفترس في الوضع الأول.
 وذهب البعض إلى أن مرجع الوضع في الاستعمال المجازي إلى إذن الواضع بهذا الاستعمال: مع وجود علاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي، وهذا هو الأقرب في تفسير الوضع؛ إذ من الواضح عدم احتياج صحة الاستعمالات المجازية إلى وضع آخر غير وضع الألفاظ للمعاني الحقيقية، ولذا يصح استعمالها فيما يشبه المعنى الحقيقي أو يناسبه بمجرد الوضع الأول، بل كيف توضع لها ثانيا مع أنه لم تخطر بالبال تلك المعاني المناسبة للمعنى الحقيقي. أضف إلى ذلك أن لازم الوضع الثاني النوعي إنكار المجاز رأسا، مع أن الأدباء قسّموا الاستعمال إلى الحقيقي والمجازي. وبالجملة، هذا التفسير الثاني، وإن كان أقرب من التفسير الأول، إلا أنك ستعرف أن الصحيح هو كون المجاز بالطبع لا بالوضع.
 أما صاحب الكفاية: فقد اختار أن تكون صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له بالطبع، وليس بالوضع والترخيص، فكل ما يستحسنه الطبع من الاستعمال يصح وإن لم يكن شيء من العلائق المجازية موجودا، وكل ما لا يستحسنه الطبع لا يصح، وإن كان مع وجود بعض تلك العلائق؛ كاستعمال (الحمار) في (زيد) إذا فرض ركوبه على الحمار دائما أو غالبا، فإن عدم حسنه بديهي رغم وجود علاقة الحال والمحل.
 أقول: المجاز في الكلمة على قسمين: مجاز مرسل، واستعارة. أما الثاني، فقد وافقنا السكاكي في الحقيقة الادعائية، نافين المجاز فيها. وتوضيحه:
 إننا نشبه الرجل الشجاع مثلا بالأسد من حيث الشجاعة، ثم نبالغ في تشبيهه حتى ندخل المشبه في المشبه به ادعاء، فيصبح للأسد فردان: فرد متعارف، وهو الحيوان المفترس، وفرد غير متعارف، وهو الرجل الشجاع، فإذا قلنا: (رأيت أسدا في الحمام)، فاستعمال لفظة (الأسد) في الرجل الشجاع ليس استعمالا مجازيا، بل استعمال حقيقي، كل ما هنالك أنه حقيقة ادعائية، وفيها من الحسن والملاحة ما يشهد به الوجدان.
 وهذا بخلاف ما لو التزمنا بمجرد التشبيه من دون ادعاء دخوله في حقيقة الأسد؛ كما لو قلت: (زيد كالأسد)؛ فإنه لا يوجد فيه من المبالغة كما في الصورة الأولى.
 ولا يخفى ما في المبالغة من الحسن واللطافة، وهي ليست من أفراد الكذب إذا قصد بها مجرد المبالغة؛ فإذا قلت لصديقك: (ذهبت إلى بيتك اليوم عشرين مرة)، وكنت في الواقع قد ذهبت إليه أربع مرات مثلا، وأنت تقصد من العشرين المبالغة لا العدد الواقعي، ففي هذه الحالة أنت صادق. نعم لو قصدت العدد المعين في الإخبار، وهو العشرون، تكون حينئذ كاذبا.
 وبالجملة، لا إشكال في حسن المبالغة، ومن هنا قال صاحب الكفاية، فيما يأتي، أن كلمة (لا) في قول النبي : "لا صلاة لجار المسجد إلا في مسجده"( [1] )، إنما استعملت في نفي الحقيقة، لكنه على نحو الادعاء والمبالغة، لا في نفي الصفة أو الكمال، وإلا فلا دلالة في الجملة على المبالغة.
 والخلاصة إلى هنا: إن على هذا المبنى يكون الاستعمال حقيقيا لا مجازيا، فيكون باب الاستعارة خارجا عن محل البحث.
 وأما المجاز المرسل: وهو الذي كانت العلاقة المصحِّحة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي غير المشابهة، وعلى هذا فالاستعارة هي اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي؛ لعلاقة المشابهة؛ ﮐ(أسد) في قولنا: (رأيت أسدا يرمي).
 ثم إن من المجاز المرسل تسمية الشيء باسم جزئه؛ ﮐ(العين)، وهي الجارحة المخصوصة في الربيئة، وهي الشخص الرقيب، والعين جزء منه. ويجب أن يكون الجزء الذي يطلق على الكل مما يكون له من بين الأجزاء مزيد اختصاص بالمعنى الذي قصد بالكل.
 ومنه تسمية الشيء باسم سببه؛ نحو: (رعينا غيثا)؛ لكون النبات مسبَّبًا عنه.
 ومنه تسمية الشيء باسم الشيء الذي كان هو عليه في الزمان الماضي، لكنه ليس عليه الآن؛ نحو قوله تعالى: { وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ...}( [2] أي الذين كانوا يتامى قبل ذلك؛ إذ لا يُتم بعد البلوغ.
 ومنه تسمية الشيء باسم ما يؤول ذلك الشيء إليه في الزمان المستقبل؛ نحو قوله تعالى: {... إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ... }( [3] أي عصيرا يؤول إلى الخمر.
 ومنه تسمية الشيء باسم حالّه؛ أي باسم ما يحل في ذلك الشيء؛ نحو قوله تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ( [4] )؛ أي في الجنة التي تحل فيها الرحمة.
 ومنه تسمية الشيء باسم آلته؛ نحو قوله تعالى: { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ } ( [5] )؛ أي ذكرا حسنا، واللسان آلة له. ونحو ذلك مما ذكر في المجاز المرسل.
 والإنصاف: إن المجاز في المجاز المرسل تابع لما يستحسنه الطبع، سواء وجدت إحدى العلائق المتقدمة أم لا. وكل ما لا يستحسنه الطبع لا يصح استعماله، وإن كان مع وجود بعض العلائق المتقدمة؛ كاستعمال (الحمار) في (زيد) إذا فرض ركوبه على الحمار دائما أو غالبا، وقد تقدم.


[1] () الرواية مرسلة التهذيب باب صفة الوضوء ج1، ص91، ح244.
[2] ( ) سورة النساء، الآية 2.
[3] ( ) سورة يوسف، الآية 36.
[4] ( ) سورة آل عمران، الآية 107.
[5] ( ) سورة الشعراء، الآية 84.