الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

33/12/27

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ مقدمات \ المقدمة الثانية \ الخبر والإنشاء
 المبحث الخامس: الخبر والإنشاء
 قال صاحب الكفاية: ( ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضا كذلك، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والإنشاء ليستعمل في قصد تحقّقه وثبوته، وإن اتفقا فيما استعملا فيه، فتأمل )
 إن الجملة لا يخلو حالها، إما أن تكون متمحِّضة في الإخبار؛ بحيث لا يمكن استعمالها في الإنشاء؛ كما في قولك: (زيد قائم)، وإما أن تكون متمحِّضة في الإنشاء؛ بحيث لا يمكن استعمالها في الإخبار؛ كما في قولك: (قُمْ)، وفي كلتا الحالتين لا حاجة لتفريق إحداهما عن الأخرى؛ لوضوح الفرق بينهما؛ إذ لم يعهد استعمال الاسمية المختصة بالإخبار في الطلب، كما لم يعهد أيضا استعمال الجملة المختصة بالإنشاء في الإخبار. وإنما الكلام في الحال الثالثة، وهي فيما لو كانت هيئة الجملة مشترَكة بين الإخبار والإنشاء؛ حيث يتفق استعمالها فيهما؛ كما في قولك: (بعت)، و(زوجت) ... فإن هذه الهيئة المشتركة هي ما تحتاج إلى مائز يفرق بين استعمالها على نحو الإخبار أو الإنشاء، وهي محط كلامنا.
 يرى صاحب الكفاية: أنه كما أن لحاظ الآلية والاستقلالية في المعاني الاسمية والحرفية خارجان عن المعنى الموضوع له، وإنما هو من شؤون الاستعمال، وطورٌ من أطواره، كذلك الإخبارية والإنشائية في هيئات الجمل، فهي من شؤون الاستعمال، ومتأخرة عن الوضع، وإلا فالموضوع له في الصيغ المشتركة نسبة المبدأ إلى الذات؛ ففي مثل قولك: (بعت)، مادة (البيع) موضوعة للماهية المهملة، بينما الهيئة؛ أي الجزء الصوَري، موضوعة لنسبة المبدأ إلى الذات، كل ما في الأمر أن الداعي مختلف، فإن كان القصد من قوله: (بعت) مثلا الحكاية عن ثبوت نسبة البيع إلى نفسه في موطنها، فيكون ذلك إخبارا، وإن كان قصده إيجاد البيع، فيكون إنشاء، وبالتالي فإن الإخبار والإنشاء منوطان بالقصد.
 وقد أشكل السيد الخوئي: على صاحب الكفاية أنه إن كان معنى الخبرية والإنشائية واحدا، وإنما الاختلاف بينهما من ناحية الداعي والقصد، لصح استعمال أحدهما في موضع الآخر؛ كاستعمال (زيد قائم) في موضع (قُمْ)، وهو باطل.
 وجوابه: إن هذا الإشكال غير وارد؛ لأن كلام الآخوند ناظر إلى الصيغ المشتركة؛ مثل: (بعت)، و(زوجت)، لا في الهيئات المتمحضة في الإخبار مثل (زيد قائم)، أو المتمحضة في الإنشاء مثل (قُمْ).
 هذه خلاصة ما ذهب إليه صاحب الكفاية، وقبل ذكر الإنصاف في المسألة نذكر بمقدَّمات ثلاث:
 أولا: الخبر عبارة عن الكلام الذي لنسبته خارجٌ تطابقه أو لا تطابقه. أما الإنشاء، فهو عبارة عن الكلام الذي ليس لنسبته خارجٌ تطابقه أو لا تطابقه.
 ثانيا: الإنشاء في الأمور الاعتبارية يتحقق بأمرين:
 - الاعتبار النفساني: أي القصد إلى إيجاد نسبة المبدأ إلى الذات خارجا، وهذا الاعتبار سهل المؤنة، وهو عملية اختيارية للمعتبر.
 - المبرِز لهذا الاعتبار.
 ومن هنا لا ينفع الاعتبار والقصد بلا مبرز، كما لا ينفع المبرز بلا قصد واعتبار؛ كما لو كان هازلا ولم يكن في مقام الجِدّ، بقطع النظر عن اختلاف الأعلام حول اشتراط الإبراز باللفظ خاصة، أو كفاية غيره من أنواع المبرزات؛ كالكتابة والإشارة.
 ثالثا: الجمل التامة التي يحسن السكوت عليها لدى المخاطب مثل: (زيد قائم)، أو (قُمْ)، أو (بعت)، أو (زوجت) ونحوها، فيها نسبة إيقاعية يعبر عنها أيضا بالنسبة الصدورية؛ حيث يلحظ فيها صدور المبدأ عن الذات. هذه النسبة الإيقاعية إن كانت حاكية عن نسبة أخرى وقوعية؛ حيث كان المنظور فيها وقوع النسبة وثبوتها المعبر عنه بالمعنى الاسم المصدري، فالجملة خبرية، فإن كانت الحكاية مطابقة للواقع، فالجملة الخبرية صادقة، وإن لم تكن مطابقة له، فهي كاذبة. وإن لم تكن هذه النسبة الإيقاعية حاكية، وبالتالي كانت الجملة خالية من النسبة الوقوعية، كانت الجملة إنشائية؛ كما في الجمل الإنشائية المحضة مثل (اِضرب)، و(قم)، ونحوهما، فإنه لا يكون فيها محكي تحكى عنه النسبة الإيقاعية كي تطابقه تارة ولا تطابقه أخرى، بل لا تكون الجملة فيه إلا مشتملة على نسبة إيقاعية أو إرسالية بين المسند أو الفاعل.
 ومهما يكن، فما ذكرناه واضح في الجمل المتمحضة في الإخبارية والإنشائية. وأما الجمل المشتركة بينهما مثل (بعت)، و(زوجت)، ونحوهما، فالمائز واضح على ضوء ما ذكرناه، وهو أن النسبة الإيقاعية إن كانت حاكية عن النسبة الوقوعية؛ أي عن واقع ثابت، فتكون الجملة إخبارية، وإن لم تكن حاكية عن نسبة وقوعية، بل كانت نسبة إيقاعية فقط توقعها المستعمل في وعائها المناسب لها، فتكون الجملة إنشائية.
 وعليه، فالفرق بين الجملة الخبرية والإنشائية فرق معنوي، كما لا يخفى، لا أن معناهما واحد وإنما الاختلاف بينهما في مقام الاستعمال، كما عن صاحب الكفاية.
 وقد اتضح مما تقدم: أن الوضع فيها عام والموضوع له خاص، كما في المعاني الحرفية. ثم إنه قد يقال: إن الفرق بين الإخبار والإنشاء في الصيغ المشتركة، هو قصد الحكاية وقصد الموجِدية، فإن كان قصد المستعمل الحكاية بها عن نسبة ثابتة خارجية، يكون إخبارا، وإن قصد بها موجديتها للمبدأ، يكون إنشاء.
 وفيه ما لا يخفى؛ فإنه لا دخل لقصد الموجدية في إنشائية الإنشاء، بل قصد الموجدية من الطوارئ للإنشاء، ومن هنا نرى صدق الإنشاء في الإنشاءات الهزلية؛ مثل قولك: (ملكتك الطير في السماء والسمك في الماء)، مع انتفاء قصد الموجدية فيها. فقصد الموجدية مثل قصد الهزلية من الدواعي للإنشاء الخارجة عما به قوام إنشائية الإنشاء، فالصحيح ما ذكرناه من التفرقة بينهما.
 يبقى شيء: وهو أن التفرقة المتقدمة بين الإخبار والإنشاء إنما هي في مقام الثبوت، أما في مقام الإثبات، فكيف يكون التفريق، والحال أن المرجع إلى نفس المتكلم، وأنى لنا الاطلاع عليه؟
 قيل: إن المتبادَر من الهيئات المشتركة هو الإخبار؛ وذلك لكثرة استعمالها فيه، فإن جملة (بعت) تستعمل في الإخبار عن بيع وقع في الخارج، أكثر من استعمالها في إنشاء بيع في الخارج.
 وفيه: إن استعمال الهيئات المشتركة في الإنشاء أيضا كثير، فمن أين جاء هذا التبادر الحاقّي؟ وعليه، فالتبادر المدعى غير صحيح. من هنا، لا بد من قرينة على تعيين أحدهما إثباتا.