الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

33/12/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ مقدمات \ المقدمة الثانية \ الوضع \ أقسام الوضع
 فالإنصاف أن ما ذكره صاحب الكفاية من جواب على عدم صحة استعمال أحدهما في موضع الآخر في غير محله، وإنما الحق أن (الابتداء) و(من) ليسا موضوعَين لطبيعة واحدة ذاتا، بل هما متغايران حقيقة ومفهومًا. واختلف الأعلام في كيفية هذا التغاير؛ فذهب الميرزا النائيني إلى أن التغاير والتباين بينهما بالإيجادية والإخطارية. وهذا ما سنأتي على توضيحه.
 إشكال السيد الخوئي
 ثم إن ما ذهب إليه صاحب الكفاية وجماعة من الأعلام من أن المعنى الحرفي يُلحظ آلة لغيره، والمعنى الاسمي يلحظ استقلالا، أشكل عليه السيد الخوئي بأن المعنى الاسمي قد يلحظ آلة لغيره، والمعنى الحرفي كثيرا ما يلحظ استقلالا.
 أما بالنسبة للمعنى الاسمي: ففي مثل قوله تعالى: {... َكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ...} ( [1] )، "التبيّن" في الآية معنى اسمي، وهو طريق لطلوع الفجر، فيكون قد أُخذ آلة ومرآة لغيره؛ إذ لا موضوعية للتبيّن؛ لأن موضوع حكم حرمة الأكل والشرب هو طلوع الفجر، وما التبيّن إلا طريق إليه ومرآة له، فيلزم أن يكون المعنى الاسمي معنى حرفيا؛ إذ الملاك في كون المعنى حرفيا هو لحاظه آلة لغيره، وهو موجود فيه.
 وفيه: صحيح أن التبيّن مرآة لغيره وطريق إليه، ولكن ليس هذه هي المرآتية الملحوظة في المعنى الحرفي؛ فإن المراد من كون المعنى الحرفي آلة لغيره، هو أنه لا يمكن لحاظه مستقلا في الذهن، بل لا يكون إلا تبعًا لغيره.
 وأما التبيّن في الآية الشريفة، فليس كذلك؛ إذ يمكن لحاظه مستقلا. وكونه طريقًا إلى طلوع الفجر ومرآة له، لا يعني ذلك أنه لا يلحظ إلا تبعًا لغيره وفي ضمنه، بل يلحظ مستقلا.
 وأما ما ذكره من أن المعنى الحرفي قد يلحظ مستقلا: كما إذا كان ذات الموضوع والمحمول معلومين عند شخص، ولكنه كان جاهلا بخصوصيتهما، فسأل عن هذه الخصوصية، فأجيب على طبق سؤاله، فهو والمجيب إنما ينظران إلى هذه الخصوصية نظرة استقلالية. مثلا: إذا كان مجيء زيد معلومًا، ولكن كانت كيفية مجيئه مجهولة عند أحد، فلم يعلم أنه جاء وحده أو مع غيره، فسأل عنها، فقيل له: جاء مع عمرو، فالمنظور بالاستقلال والملحوظ كذلك في الإفادة والاستفادة في مثل ذلك، إنما هو هذه الخصوصية التي هي من المعاني الحرفية دون المفهوم الاسمي، فإنه معلوم.
 وفيه: إن السؤال إذا كان عن خصوصية المجيء؛ بحيث كانت هي الملتفت إليها بالسؤال، والمنظور إليها بالاستقلال، فلا يكون حينئذ معنى حرفيا، بل معنى اسميا كما لا يخفى.
 فالإنصاف هو ما ذهب إليه المشهور من أن المعنى الحرفي يلحظ آلة لغيره في مقام الاستعمال، والمعنى الاسمي يلحظ استقلالا كذلك.
 الفرق بين المعنى الإسمي والحرفي
 ثم إنه نرجع إلى بيان الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي، فنقول: قد ذكرت أقوال متعددة في المقام، نذكر منها مقولة الميرزا النائيني، وحاصلها أن معاني الأسماء إخطارية، ومعاني الحروف إيجادية. وتوضيحه:
 أما كون المعنى الاسمي إخطاريا: فهو عبارة عن خطوره في الذهن بمجرد ذكره بلا حاجة إلى شيء آخر، فله تقرّر؛ أي استقرار في وعاء الذهن، وله استقلال؛ أي لا يحتاج إلى آخر.
 أما المعنى الحرفي، فهو إيجادي: بمعنى أنه يوجِد شيئا لم يكن موجودا من قبل، وهو الربط الخاص، ففي قولنا: (سرت من البصرة إلى الكوفة)، (من) أوجدت الربط بين السير والبصرة، و(إلى) أوجدته بين السير والكوفة، ولا يكون حاكيا عن شيء وكاشفا عنه؛ إذ لا يخطر في الذهن شيء عند سماع لفظة (في) مثلا، ومن هنا كان المعنى الحرفي لا تقرّر له في الذهن؛ فإن لفظ (في) مثلا في قولنا: (زيد في الدار)، لا وجود لمعناها في الذهن قبل الاستعمال، ولا استقلالية له بمعزل عن طرفي الإسناد، (زيد) و(الدار)، فإذا وُجد بالاستعمال وُجد قائما بالغير، فيكون موطنه الاستعمال فقط.
 ثم قال: المعنى الحرفي مغفولا عنه حين الاستعمال، فهو يلحظ آلة لغيره، فأشبه بذلك اللفظ الذي يُغفل عنه حين الاستعمال، فيلحظ آلة، بينما يلحظ المعنى مستقلا. وعليه، كلما ما كان النظر إليه آليا أشبه المعنى الحرفي.
 هذه زبدة مقولة الميرزا، وقد استدل عليها بأدلة، نذكر منها دليلين:
 - الأول: ما رواه أبو الأسود الدؤلي عن أمير المؤمنين: "الكلام ثلاثة أشياء: واسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أوجد معنى في غيره". وهذا واضح في كون الحرف إيجاديا؛ أي يوجد معنى في غيره، ولا ينبئ عن شيء كما هو حال الاسم والفعل، لذا عدل عن الإنباء إلى الإيجاد.
 وفيه: هذه الرواية رويت من طرق العامة، وهي ضعيفة السند، فلم تصلنا بطريق معتبر. كما أنها رويت بمتن آخر، هو: "الاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل"؛ حيث عبر بالإنباء بدل الإيجاد، وهذا ما يجعلها غير صالحة للاستدلال.
 - الثاني: من المعلوم أن مفاهيم الأسماء مفاهيم بسيطة ومستقلة في الأذهان غير مرتبط بعضها بالبعض الآخر؛ ﻛ(الماء) و(الكوز) مثلا، فإنهما موضوعان لمفهومين متغايرين لا يرتبط أحدهما بالآخر، فلو استعملت كلمة (في) في مفهوم النسبة الظرفية لا في حقيقتها، فما الرابط بين هذين المفهومين المستقلين؟ فنحتاج إلى رابط بينهما حال الاستعمال، وهذا الرابط هو الحروف، ولذلك كانت المعاني الحرفية إيجادية، لا وجود لها في الذهن قبل الاستعمال.
 وفيه: كما أن المعنى الاسمي إخطاري يخطر في الذهن بمجرد ذكر اللفظ، فالمعنى الحرفي إخطاري أيضا؛ لأنه يخطر في الذهن بمجرد ذكره مع طرفي الربط، نعم كل ما في الأمر إخطارية المعنى الاسمي استقلالية، بينما إخطارية المعنى الحرفي غير استقلالية؛ فصحيح أن المعاني الاسمية مستقلة تحتاج إلى رابط، وهو الحروف، ولكن هذا الربط موجود في الذهن قبل الاستعمال، فهو إخطاري وإن لم يكن على نحو الاستقلال. وتوضيحه:
 إن المناطقة قسّموا القضايا إلى قضايا معقولة يتم فيها تصور طرفي القضية والرابط بينهما في الذهن، وقضايا لفظية تحكي عن هذا المتصوَّرات؛ مثلا في قولنا: (زيد في الدار)، فكما تحكي لفظة زيد عن معنى زيد، ولفظة (الدار) عن معنى الدار، كذلك تحكي لفظة (في) عن الرابط بينهما، فالربط الخاص بين المفاهيم الذي هو المعنى الحرفي موجود في الذهن، وإن لم يكن مستقلا فيه، وحكايته عن الربط الخاص إخطار له، وإنما الفرق بينه وبين المعنى الاسمي أن الإخطار فيه غير استقلالي، بينما الإخطار في المعنى الاسمي استقلالي.
 نعم، ما ذكره من أن حال المعاني الحرفية حال الألفاظ حين الاستعمال، من كونها ملحوظة آلة استقلالا، في غاية الصحة والمتانة، خلافا للسيد أبي القاسم الخوئي.


[1] () سورة البقرة، الآية 187.