الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

33/11/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول \ مقدمات \ المقدمة الثانية \ الوضع \حقيقة الوضع
 المبحث الثالث: حقيقة الوضع
 اختلفت مسالك الأعلام القائلين بأن الوضع جعلي - سواء كان مبناهم الجعل المحض أم التركب من الذاتي والجعل - في حقيقة هذا الجعل وكيفيته، نذكر منها ثلاثة مسالك:
 مسلك التعهد:
 ذهب المحقق النهاوندي، وتبعه السيد الخوئي وجماعة، إلى أن حقيقة الوضع هو التعهد والتباني النفساني الكلي؛ أي التعهد بذكر طبيعي اللفظ عند إرادة تفهيم طبيعي المعنى بنحو القضية الحقيقية، وعليه يكون كل مستعمِل واضع حقيقة. مثلا: التزم كل واحد من أفراد الأمة العربية بأنه متى ما قصد تفهيم معنى جسم سيال بارد بالطبع، أن يجعل مبرزه لفظ (الماء)؛ فزيد حينما يستعمل لفظ الماء لإرادة معنى هذا الجسم السيال المعروف، فهو واضع، وكذا عمرو حينما يستعمل لفظ الأسد لإرادة الحيوان المعروف، وهكذا كل مستعمل. وإنما الفارق بين المستعملين السابقين والمستعملين اللاحقين، هو أن السابقين سبقوا إلى الوضع؛ أي سبقوا إلى التعهد المذكور، ثم جاء اللاحقون ليتعهدوا على طبق تعهدات سلفهم، وما إطلاق الواضع على الجاعل الأول إلا لكونه سابقا، لا لأجل أنه واضع دون غيره.
 ولما كان الوضع تعهدا إراديا اختياريا؛ حيث إن تعهد كل شخص فعل اختياري له، فيستحيل تعهد شخص في استعمال لفظ في معنى بالنسبة لشخص غيره؛ لعدم كون تعهد شخص تحت اختيار غيره، ولا معنى للتوكيل في الأمور الحقيقية الخارجية؛ كما لا معنى أن يقول أحد لآخر: (اشرب الماء عني)، وإنما التوكيل في الأمور الاعتبارية، والحال أن التعهد أمر حقيقي قائم في صقع نفس المتعهِّد، نعم المتعهَّد أمر اعتباري؛ لفرض أن الواضع اعتبر لفظا في قبال معنى.
 ويترتب على القول بأن الوضع تعهّد إرادي اختياري، أنه لا دلالة تصورية في الوضع؛ إذ الفرض أن الوضع إرادة من قبل الواضع بجعل لفظ مخصوص في قبال معنى خاص على النحو التعهد والتباني النفساني، والدلالة التصورية لا إرادة فيها. أما انتقال الذهن من اللفظ إلى المعنى بعد سماعه من قبل متكلم خال من الإرادة؛ كالساهي والنائم، فليس سببه الوضع، وإنما سببه الأنس الذهني الناتج عن كثرة استعمال هذا اللفظ في معناه.
 ويرد على هذا الكلام: إذا كان معنى التعهد هو إرادة ذكر اللفظ عند إرادة المعنى، فنقول: هذه الإرادة المتعلِّقة بذكر اللفظ، إما أن تكون إرادة نفسية، وإما أن تكون إرادة غيرية ناشئة عن إرادة تفهيم المعنى؛ لأن الغرض من الإرادة الغيرية التوصل بها إلى إبراز المعنى باللفظ
 فإن كان المراد هو الإرادة النفسية، فهي لا تخلو من إحدى حالتين:
 الحالة الأولى: أن تكون لأجل إيجاد العلقة بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة،
 الحالة الثانية: أن يكون الغرض منها مطلوبية ذكر اللفظ ذاتا في ظرف إرادة تفهيم المعنى.
 فإن كان المقصود الأول: فلا ينفع القول بالتعهد، بل هو يرجع إلى القول بالوضع بأحد تفسيراته الآتية.
 وإن كان المراد الثاني، ففيه:
 أولا: إن الوجدان حاكم بأن ذكر اللفظ إنما هو للتوصل به إلى تفهيم المعنى، وليس مطلوبا نفسيا.
 ثانيا: إنه يلزمه عند سماع اللفظ أن ينتقل الذهن إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى؛ لأن الفرض أن إرادة ذكر اللفظ إرادة نفسية، مع أنه من المعلوم أنه بالسماع ينتقل الذهن مع الغفلة عن اللفظ؛ كأن المعنى هو الملقى إليه بلا توسط اللفظ.
 وأما إن كانت إرادة ذكر اللفظ إرادة غيرية لأجل التوصل إلى المعنى، باعتبار أن اللفظ مبرز للمعنى وكاشف عنه، فيرد عليه أن إرادة ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى متوقفة على العلم بالوضع؛ إذ لو لم يعلم بأن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، لم تتحقق منه الإرادة. وعليه، فلو فرضنا أن الوضع عبارة عن إرادة ذكر اللفظ عند إرادة تفهيمه لدار.
 وأما الجواب عنه بأن ما يتوقف على العلم بالوضع هو إرادة ذكر اللفظ عند إرادة المعنى في مرحلة الاستعمال، وأما إرادة ذكر طبيعي اللفظ عند إرادة تفهيم طبيعي المعنى بنحو القضية الحقيقية، فإنها لا تتوقف على شيء. ففيه:
 إن الإرادة الاستعمالية عند هذا القائل هي عين الإرادة الكلية التي يسميها بالتعهد الكلي، وعلى نحو القضية الحقيقية؛ لأن هذه الإرادة الاستعمالية المتعلقة بذكر اللفظ، عبارة عن فعلية ذلك التعهد الكلي، ومن شؤونه، وإلا فقبل إرادة التفهيم لا يكون إلا مجرد البناء على إرادة اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى، وعليه يعود الإشكال؛ إذ الإرادة الغيرية متوقفة على العلم بالوضع، والوضع عبارة عن ذلك التعهد، الذي هو إرادة ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى.
 كما إنه يرد إشكال آخر على القول بالتعهد، وحاصله: إنك إذا قلت: (زيد جالس)، فلا بد أن يكون عندك ثلاث إرادات: إرادة إحضار صورة زيد، وإرادة إحضار صورة جالس، وإرادة إحضار صورة النسبة بينهما، مع أنه بالوجدان لا توجد ثلاث إرادات للمتكلم، وإنما ثلاث صور، صورة الموضوع، وصورة المحمول، وصورة النسبة بينهما. فالخلاصة إلى هنا أن القول بالتعهد لم يكتب له التوفيق.