الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

33/11/21

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ مقدمات \ المقدمة الأولى\الوضع\الواضع
 المبحث الثاني: من الواضع؟
 ذهب أغلب الأعلام قديما وحديثا إلى أن الواضع هو البشر، في قبال من ذهب كالنائيني إلى أنه الحق ، وقد استدل على قوله بدليلين:
 - الدليل الأول:
 إنا لو تأملنا اللغة بمفرداتها ومعانيها الكثيرة التي تتلاطم أمواجا هائلة في بحور المعاجم اللغوية، لجزمنا أن تولي أشخاص لمهمة وضع هذه الألفاظ لمعانيها أمر محال. هذا بالنسبة إلى لغة واحدة، فما بالنا بكمِّ اللغات الكبير المترامية في كل بقاع الأرض؟!
 وفيه: إنما يتم هذا الدليل لو فرضنا أن اللغة إنما وضعت دفعة واحدة، وليس الأمر كذلك حتما؛ إذ لا حاجة للبشر في وضع ألفاظ لمعان لم يكونوا قد ابتلوا بها بعد؛ ككثير من المكتشافات والاختراعات التي تتزايد يوما بعد يوم. وبالتالي دعوى جعل البشر للغة بدائية تتماشى مع احتياجاتهم البسيطة ليس بعزيز؛ حيث أخذت ألفاظ هذه اللغة بالتنامي شيئا فشيئا متناغمة مع تطور الحركة البشرية حتى وصلت إلى ما عليه اليوم.
 - الدليل الثاني:
 إن المعهود في كتب التأريخ أن تدوّن الأحداث التاريخية التي تقل شأنا عن حدث عظيم كوضع اللغة التي تشكل أهم عنصر تواصلي بين المجتعمات البشرية قاطبة، والحال أننا لم نجد من أرّخ لمثل هذا الحدث من جهة، كما لم نجد اسمًا للواضع المزعوم، ولو من جهة الحقبة التاريخية التي تبلور فيها هذا الوضع.
 وبناء عليه، فلا يصح القول بأن الواضع هو البشر، وإنما الحق أن الحكيم - وبمقتضى حكمته - جعل للبشر لغة يتفاهمون من خلالها، ويعبرون بها عن مرادهم، فألهم كل قوم لغة لهذا الغرض؛ حيث احتوت كل لغة على ألفاظ تدل على معان خاصة، بين هذه المعاني الخاصة والألفاظ مناسبة حتما، وإلا للزم الترجيح بلا مرجح، وهو محال؛ إذ لا يمكن أن يوضع أي لفظ لأي معنى، فوضع لفظ الماء للسائل المعروف لمناسبة بينهما، ووضع لفظ الأسد للحيوان المعروف لمناسبة بينهما أيضا، وهكذا.
 ثم إن هذا الجعل الإلهي للغة ليس جعلا تشريعيا محضا؛ من قبيل جعل الأحكام الشرعية التي تحتاج إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب، وليس جعلا تكوينيا محضا؛ من قبيل جعل الإحراق للنار، والبلل للماء، والوجدان للإنسان الذي يدرك به عطشه وجوعه وخوفه ... وإنما جعل الحكيم الألفاظ للمعاني جعل وسطي؛ حيث أودع (تعالى) في الإنسان قوة استطاع من خلالها أن يدرك الألفاظ الخاصة بمعانيها من خلال إلهام خاص، فالجعل إذن من الله، واكتشافه بفضل الإلهام الإلهي هذا حاصل الدليل الثاني،
 وفيه:
 - أولا: إن عدم تدوين اسم شخص كواضع للغة يعود إلى أن الواضع ليس شخصا معينا، وإنما هي جماعة في كل طبقة تولّت وضع ألفاظ خاصة لمعان خاصة، ثم جاءت جماعة أخرى لتتصدى لوضع ألفاظ لمعان جديدة طرأت، وهكذا حصل الأمر بشكل تدريجي على يد جماعات متفرقة.
 - ثانيا: إن دعوى لابدية المناسبة بين الألفاظ ومعانيها؛ حيث يلزم من انتفائها الترجيح بلا مرجح، دعوى باطلة؛ لأن الترجيح في أصل الوضع، فلا يشترط وجود المرجِّح في الأفراد؛ فلو فرضنا أن شخصا فر من قسورة، وأمامه طريقان متساويان من جميع الجهات، فهل يبقى واقفا في مكانه، ولا يفر من أحديهما حتى لا يقع في الترجيح بلا مرجح؟ بل لا إشكال في سلوكه أحديهما؛ لأن الترجيح في أصل الفعل، وهو الفرار، موجود وإن لم يكن موجودا في أفراده. وكذا فيما نحن فيه.
 ثم لو سلمنا بوجود مناسبة بينهما؛ إلا أنه لما كانت عملية الوضع اختيارية؛ أي باختيار الواضع، كفى أن تكون المناسبة في نفس الجاعل، وإن لم تكن على طبق المناسبة الخارجية بين اللفظ والمعنى.
 - ثالثا: إن الإلهام قوة ثابتة من آثار الهداية التكوينية للإنسان يدرك من خلالها الخير والشر، وبهذه القوة أدرك الإنسان حاجته إلى اللغة، فراح يضع الألفاظ للمعاني بنحو تدريجي لا دفعي، وهذا هو مقتضى الإنصاف.
 أضف إلى ذلك أنك هل تجد من نفسك حينما أردت أن تضع اسما لولدك، أن الله أوحى إليك أن سمّه كذا، كما أوحى لزكريا أن يسمي ولده يحيى (على نبينا وآله وعليهما السلام)؟ بل أنت من يضع له اسما، وأنت من يجعل العلقة والارتباط بين الاسم والمسمّى، والله العالم.