الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

33/11/15

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول\ مقدمات \ الأمر الأول\ موضوع علم الأصول
 المبحث الرابع: موضوع علم الأصول
 قال صاحب الكفاية: ( وقد انقدح بذلك أن موضوع علم الأصول، هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المشتتة، لا خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة، بل ولا بما هي هي ) [1]
 بعد الفراغ من بحث وحدة موضوع العلم، وتعريفه، وتمايز العلوم به، شرع في بيان موضوع علم الأصول، فالتزم هنا بما التزمه في مبحث وحدة موضوع العلم؛ حيث ذهب إلى أنه لكل علم موضوع جامع ذاتي وكلي، وبالتالي فهو يرى أن موضوع علم الأصول كلي أيضا، ينطبق على مسائله، سواء عرفناه أم لا؛ حيث يكفي في التحقق من وجوده صدور الأثر عنه، وهو الغرض.
 كما ذهبت جماعة ومنهم صاحب القوانين القمي، إلى أن موضوع العلم هو الأدلة الأربعة (القرآن والسنة والإجماع والعقل) بما هي حجة، بينما ذهبت جماعة أخرى ومنهم صاحب الفصول، إلى أن موضوعه الأدلة الأربعة بما هي هي، وقد أشار صاحب الكفاية بعبارته المتقدمة إلى هذين الرأيين.
 أما ما ذهب إليه صاحب القوانين، فقد أشكل عليه بخروج أغلب مسائل علم الأصول عنه، ولكي يتضح ذلك نبين أقسام المبادئ الثلاثة:
 - المبادئ التصورية: وهي عبارة عن تصور الموضوع والمحمول وأجزاؤهما؛ أي تعريفها؛ مثلا: يعرِّف ابن مالك الخبر بقوله:
 "والخبر الجزء المتم الفائدة كالله برٌّ والأيادي شاهدة"
  فهذا التعريف للخبر مبدأ تصوري من المبادئ التصورية لعلم النحو.
 - المبادئ التصديقية: وهي عبارة عما يجعلك تذعن بنسبة المحمول إلى الموضوع؛ أي يجعلك تصدق بثبوته؛ مثلا: من أدلة حرمة شرب الخمر الآية تسعون من سورة المائدة؛ حيث قال (عز من قائل): يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، فهذه الآية المباركة مبدأ تصديقي لعلم الفقه.
 وفي علم النحو مثلا، يستدل لوجوب نصب المستثنى مطلقا حال تقدم المستثنى على المستثنى منه، بقول الكميت:
 "وما لي إلا آلَ أحمد شيعةٌ وما لي إلا مذهب الحق مذهبُ"
 كما يستدل بأن لفظة (ما خلا) التي هي من أدوات الاستثناء، تنصب دائما، يستدل بقول لبيد الشاعر؛ حيث قال:
 "ألا كل شيء ما خلا اللهَ باطل وكل نعيم لا محالة زائل"
 فهذان البيتان مبدآن تصديقيان من مبادئ علم النحو.
 - المبادئ الأحكامية: وهي عبارة عن صفات الأحكام وأحوالها؛ مثل أن هذا الحكم تكليفي، وهذا وضعي، وأن الحكم الوضعي متأصل في الجعل أو منتزع من التكليف، وأيضا الأحكام متضادة فيما بينها أم لا ... فإن هذه الأمور وأمثالها من المبادئ الأحكامية.
 إذا عرفت ذلك فنقول: على مبنى صاحب القوانين من أن موضوع علم الأصول هي الأدلة الأربعة بما هي حجة، يلزم خروج أهم مسائل علم الأصول عنه؛ مثل: (الكتاب حجة)، و(السنة حجة)، و(الإجماع حجة)، و(العقل حجة)؛ لأن البحث في هذه المسائل بحث في ثبوت موضوع علم الأصول؛ إذ على مبناه تكون الحجية بالنسبة إلى موضوع علم الأصول جزءا منه، فالبحث فيها بحث في مبادئ العلم التصديقية، لا العوارض الذاتية؛ لأن البحث عن العوارض إنما يكون عما يعرض على الموضوع بعد الفراغ من ثبوته؛ أي ما يكون بمفاد كان الناقصة، لا مفاد كان التامة؛ أي البحث عن ثبوت الموضوع.
 كما يرد إشكال آخر على هذا المبنى ومبنى صاحب الفصول، وهو لزوم خروج حجية خبر الواحد عن علم الأصول؛ لأن خبر الواحد ليس شيئا من الأدلة الأربعة، فهو حاك عن السنة وليس هو نفسها، وبالتالي سواء قلنا بأن موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بما هي حجة، أو الأدلة الأربعة بما هي هي، يلزم خروج هذه القضية عن مسائل علم الأصول، وكذا أمثالها؛ كالاستصحاب، والأصول العملية، والمستلزمات العقلية، فإن هذه كلها ليست من الأدلة الأربعة.
 وكذا مباحث الألفاظ؛ مثل ظهور صيغة الأمر في الوجوب؛ فإن صيغة الأمر ليست مختصة بالكتاب والسنة، فعروض الوجوب عليها بواسطة هيئة (اِفعل)، وهي واسطة خارجية أعم، وهي من الأعراض الغريبة اتفاقا، فلا تكون هذه القضية وأمثالها من علم الأصول، سواء أقلنا بأن الموضوع الأدلة الأربعة بما هي حجة أم بما هي هي، وعليه ماذا يبقى لعلم الأصول من مسائل؟
 وأما فرار صاحب الفصول عن خروج مباحث حجية الأدلة الأربعة عن مسائل علم الأصول بالتزامه بأن الموضوع هي الأدلة الأربعة بما هي هي، لا بما هي حجة، فكان فرارا ناجحا فيما يخص هذه المباحث فحسب، إلا أن إشكال خروج حجية خبر الواحد، والأصول العملية ، والمستلزمات العقلية، ومباحث الألفاظ، بقي مستقرا بحقه.
 هذا بالنسبة إلى ما ذهب إليه كل من صاحب القوانين وصاحب الفصول ومن دار في فلكهما. أما ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أن موضوع علم الأصول جامع مقولي ذاتي، وهو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله، شأن سائر العلوم، فقد تقدّم جوابه من أنه لا دليل على وجود هذا الجامع المقولي، بل قام الدليل على استحالته في بعض العلوم؛ كالفقه والأصول.
 وعودًا على إشكال خروج حجية خبر الواحد عن مسائل علم الأصول، حاول الشيخ الأنصاري نصرة صاحب القوانين وصاحب الفصول بعدما رأى انكسارهما أمام ما أشكل عليهما؛ إذ المؤمن له ناصر، فقال: إن مرجع البحث في حجية خبر الواحد إلى البحث عن ثبوت السنة به، يعني البحث في حجيته بحث في أحوال السنة.
 ولكن أجاب صاحب الكفاية وجماعة من الأعلام عن هذه النصرة، بأن الثبوت المدعى، إن كان المراد منه ثبوت السنة في الخارج، فيكون بحثا عن ثبوت موضوع علم الأصول؛ أي بحثا عن المبادئ التصديقية بمفاد كان التامة، لا بحثا عن العوارض الذاتية للموضوع بمفاد كان الناقصة.
 أضف إلى ذلك أنه لا يعقل ثبوت السنة في الخارج تكوينا بخبر الواحد؛ إذ ليس خبر الواحد علة تكوينية للسنة؛ لأنه كاشف عنها؛ أي واسطة إثباتية لها لا واسطة ثبوتية، وقد عرفت أنه لو سلمنا بأنه واسطة ثبوتية، إلا أن البحث فيه يكون بحثا في المبادئ لا في العوارض.
 إن قلت: ليس المقصود الثبوت التكويني للسنة، وإنما المراد الثبوت التعبدي؛ أي حكم الشارع بالحجية، والعمل بالخبر تعبدا.
 قلنا: دعوى إرادة الثبوت التعبدي وإن كان يفيد في كون البحث بحثا عن العوارض، لا عن المبادئ، إلا أنه بحث عن عوارض الخبر الحاكي للسنة، لا بحث عن عوارض السنة المحكية به.
 وأما دعوى تركب السنة من قول المعصوم والحاكي عنها، فجوابه واضح من أنه لا يمكن جعل الكاشف جزءا من السنة؛ لوضوح أن السنة هي عبارة عن قول المعصوم (عليه السلام)، وفعله، وتقريره، وأما الخبر، فهو كاشف عنها، وطريق إليها. ثم لو سلمنا ذلك، فإن البحث عن حجية الخبر يكون من المبادئ وبمفاد كان التامة؛ لأنه بحث عن ثبوت الموضوع لا عن عوارضه.
 وبناء على ما تقدم، فإن الإنصاف يقتضي نفي كون موضوع علم الأصول جامعا مقوليا، أو الأدلة الأربعة بما هي حجة، أو الأدلة الأربعة بما هي هي، وإنما موضوعه: (كل ما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، أو ما يُنتهى إليه في مقام العمل)، وهذا كلي انتزاعي لا كلي مقولي.
 
 


[1] - كفاية الأصول الآخوند ص 8