الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/05/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: صلاة الجمعة وآدابها(11)

وأمَّا كثير السَّفر ناوي الإقامة عشرة أيام، وما فوق: فهو، وإن كان الواقع يصدق عليه عنوان المسافر إذ الإقامة عشرة أيام ليست قاطعةً لموضوع السَّفر إنَّما قاطعة لحكمه، إلَّا أنَّه يظهر من الأدلَّة أنَّ الشَّارع نزَّل المقيم عشرة أيام منزلة الحاضر، فتكون الأدلَّة في المقيم عشرة أيام حاكمةً على الأدلَّة المثبتة لحكم المسافر.

وأمَّا المقيم في بلد سنتين، وما فوق للعمل ونحوه -مع عدم نيَّة الاستيطان-: فهو لا يصدق عليه عنوان المسافر، ويأخذ حكم المستوطن، فيتمّ بمجرد الدُّخول للبلد، وإن لم يكن للعمل.

وأمَّا كثير السفر، فالإنصاف: أنَّه لم يرد في الرِّوايات عنوان كثير السَّفر، وإنَّما الموجود مَنْ كان السَّفر عملاً له، أو مقدمةً لعمله.

وعلى الحالتين فإنَّه يصدق في الواقع على مَنْ شغله السَّفر، أو كون السَّفر مقدمةً لعمله، أنَّه مسافر في الواقع ، إلَّا أنَّه يظهر من الأدلَّة أنَّ الشَّارع نزَّل مَنْ كان

كذلك منزلة الحاضر، فتكون أدلَّة من شُغْله السَّفر أو كون السَّفر مقدمة لعمله حاكمةً على الأدلَّة المثبتة لحكم المسافر، ففي صحيحة زرارة (قال: قال أبو جعفر (عليه السَّلام): أربعة قد يجب عليهم التَّمام، في سفر كانوا أم حضر، المكاري والكري والراعي والاشتقان، لأنَّه عملهم)([1] ).

فيظهر من هذه الصَّحيحة، ونحوها، أنَّ الشَّارع نزَّل هذه الأمور الموجودة في الصَّحيحة منزلة الحاضر من حيث الحكم، فتكون هذه الصَّحيحة، وغيرها، حاكمةً على المسافر.

وهذا بخلاف ما ورد في العاصي بسفره، فإنَّه بظاهره تخصيص لا حكومة، ففي معتبرة عمَّار بن مروان عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (قال: سمعته يقول: مَنْ سافر قصَّر وأفطر، إلَّا أن يكون رجلاً سفره إلى صيد أو في معصية الله، أو رسول لمن يعصي الله...)([2] ).

والظَّاهر أنَّ المراد من عمَّار بن مروان هو اليشكري الثقة، وكذا غيرها من الرِّوايات.

وأمَّا الأعمى: فقد نسب العلامة (قدِّس سرُّه) في المنتهى: السَّلامة من العمى إلى علمائنا.

قال المصنِّف في الذِّكرى: (السَّادس: ارتفاع العمى، فلا تجب على الأعمى عند الأصحاب، سواء كان قريباً من المسجد أو لا، وسواء وجد قائداً أو لا، لما سلف، ولعموم {ليس على الأعمى حرج}، وهو حاصل في الجملة ...).

أقول: مقتضى إطلاق النصّ الذي ورد فيه استثناء الأعمى هو عدم الفرق بين ما يشقّ الحضور مشقّة لا تتحمل عادةً وعدمه، وزيادة المرض بالحضور، أم لا، خلافاً لما في المسالك والرَّوض، وغيرهما، من التقييد بالمشقَّة التي لا يتحمّل مثلها عادةً أو خوف زيادة مرض، أو بطء برءه، ونحو ذلك، فإنَّ كلَّه تقييد للنصّ بلا موجب.

نعم، لا يبعد القول: أن تكون هذه الأمور بالنسبة إليه حكمةً للسُّقوط، لا علةً، بحيث يدور الحكم مدارها، إذ الغالب بالنسبة إلى كثير من مصاديق الأعمى عدم المشقَّة، خصوصاً مع قرب الطَّريق.

وأمَّا العرج: فعن المنتهى الإجماع عليه، ولكن قيَّد العلَّامة (قدِّس سرُّه) في التذكرة معقد الإجماع بما بلغ حدَّ الإقعاد، كما في المصنِّف (قدِّس سرُّه) في الذكرى، حيث قال: (السَّابع: ارتفاع العرج البالغ حدّ الإقعاد...).

أقول: لم يرد في الأخبار ما يدلّ على استقناء العرج إلَّا ما أرسله السَّيد المرتضى (قدِّس سرُّه) في مصباحه ، حيث قال: (وقد رُوْي: أنَّ العرج عذر)، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال.

وأمَّا القول: بأنَّ عمل المشهور جابر لضعفها.

ففيه: ما عرفت، من عدم ثبوت الكبرى.

أضف إلى ذلك: أنَّ الصُّغرى غير ثابتة، إذ لم يحرز استثناء المشهور في فتواهم إلى هذه المرسلة.

والإنصاف: هو الرُّجوع إلى القواعد العامَّة.

وحاصله: أنَّه إذا بلغ العرج حدّاً يشقّ عليه الحضور، على وجه يُعدّ ذلك تكليفاً حرجيّاً سقط الوجوب في حقِّه لِعمومات أدلَّة نفي الحرج الحاكمة على عموم أدلَّة التكاليف، وإلَّا لم يسقط.

وأمَّا المرض الوارد في النصّ: فقد قيَّده بعضهم بما يتعذَّر معه الحضور، وآخر قيَّده بالمشقَّة التي لا يتحمّل مثلها عادةً، أو خوف زيادة مرض، أو بطئه، ونحو ذلك.

إلَّا أنَّ الإنصاف: أنَّ هذا تقييد بلا موجب.

نعم، يمكن أن يقال: إنَّ الحكمة في استثنائه هو كون المرض موجباً للمشقَّة التي يصعب معها عرفاً الحضور إلى مكان الجمعة لا المشقَّة الشَّديدة التي يسقط التكليف معها بعمومات نفي الحرج.

وأمَّا الشَّيخ الكبير الوارد في النصّ الذي عبَّر عنه بعض الأعلام بالشَّيخ الهِمّ -بكسر الهاء- الذي فسَّره في المحكي عن الكركي (قدِّس سرُّه) بالشَّيخ الفاني: فلا إشكال في سقوط الجمعة عنه إذا كان عاجزاً عن الحضور، أو الذي يمكنه ذلك بمشقَّة شديدة، لا يتحمّل مثلها عادة.

وإنَّما الكلام في الشَّيخ الكبير (قدِّس سرُّه) الذي لم يبلغ ذلك، فمقتضى إطلاق النصّ هو السّقوط عنه، وهو الإنصاف.

نعم، لا يبعد أن تكون الحِكمة في سقوط الجمعة عن الشَّيخ الكبير هو بلوغ ضعفه مرتبةً يشقّ معها عرفاً الحضور إلى مكان الجمعة، لا المشقة الشَّديدة التي يسقط التكليف معها بعمومات نفي الحرج، والله العالم.

قوله: (وعدم البعد بأزيد من فرسخين)

اِختلف الأعلام في تحديد البُعد المقتضي لِعدم وجوب السَّعي إلى الجمعة على أربعة أقوال:

الأوَّل -وهو المشهور بين الأعلام-: أنَّ حدَّه أن يكون أزيد من فرسخَيْن.

ومن جملة القائلين به الشَّيخان والسَّيد المرتضى وأبو الصَّلاح وسلَّار وابن إدريس والفاضلان "قدس الله أسرارهم"، وفي الجواهر: (إجماعاً بقسمَيْه ونصوصاً...).

الثاني: ما عن الشَّيخ الصَّدوق (قدِّس سرُّه) في المقنع، حيث قال: (إنَّ الله تعالى وضعها عن تسعة -إلى أن قال: ومَنْ كان على رأس فرسخَيْن).

ورواه في مَنْ لا يحضره الفقيه، وذكَره في كتاب الأمالي في وصف دين الإماميَّة، وهو قول ابن حمزة، وهو ظاهر في السُّقوط عن مَنْ كان على رأس فرسخَيْن، فلا تجب إلَّا على مَنْ نقص عن الفرسخَيْن؛ والقول الأوَّل صريح في الوجوب على مَنْ كان على رأس فرسخَيْن، وإنَّما تسقط بالزَّيادة عنهما.

الثالث: ما عن ابن أبي عقيل (قدِّس سرُّه) أنَّه قال: (ومَنْ كان خارجاً من مصر أو قرية إذا غدا من أهله بعدما يصلِّي الغداة، فيدرك الجمعة مع الإمام، فإتيان الجمعة عليه فرض، وإن لم يدركها إذا غدا إليها بعد صلاة الغداة فلا جمعة عليه).

الرابع: ما حُكي عن ابن الجنيد (قدِّس سرُّه) أنَّه قال: (بوجوب السَّعي إليها على من سمع النداء بها إذا كان يصِل إلى منزله إذا راح منها قبل خروج نهار يومه).

وقدِ استُدل للقول الأوَّل المشهور بين الأعلام بعدَّة من الرِّوايات:

منها: حسنة محمَّد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر (عليه السَّلام) (قال: تجب الجمعة على كل مَنْ كان منه على فرسخَيْن)([3] ).

ومنها: حسنة محمَّد بن مسلم (قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) عن الجمعة، فقال: تجب على كلِّ مَنْ كان منها على رأس فرسخَيْن، فإن زاد على ذلك فليس عليه شيء)([4] ).

ومنها: ما رواه الشَّيخ الصدوق (قدِّس سرُّه) في العِلل وعيون الأخبار بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرّضا (عليه السَّلام) (قال: إنَّما وجبت الجمعة على مَنْ يكون على فرسخَيْن لا أكثر من ذلك، لأنَّ ما يقصّر فيه الصَّلاة بريدان ذاهباً، أو بريد ذاهباً وبريد جائياً، والبريد أربعة فراسخ، فوجبت الجمعة على مَنْ هو على نصف البريد الذي يجب فيه التقصير، وذلك أنَّه يجيئ فرسخَيْن ويذهب فرسخَيْن، فذلك أربعة فراسخ، وهو نصف طريق المسافر)([5] ولكنَّها ضعيفة، لعدم وثاقة كلّ مَنْ عبد الواحد بن محمَّد بن عبدوس النيشابوري، وعليّ بن محمَّد بن قتيبة.

وهذه الرِّوايات ظاهرة في أنَّ صلاة الجمعة واجبة على مَنْ كان على رأس فرسخَيْن، وساقطة عمَن كان على أزيد منفرسخَيْن.

وأمَّا القول الثاني: فقدِ استُدلّ له بصحيحة زرارة المتقدِّمة عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، حيث ورد في ذيلها: (ووضعها عن تسعة عن الصَّغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى، ومَنْ كان على رأس فرسخَيْن)([6] ).

وبمرسلة الفقيه المتقدِّمة أيضاً (قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السَّلام) في الجمعة، فقال: الحمد لله الوليّ الحميد -إلى أن قال: - والجمعة واجبة، واجبة على كلّ مؤمن إلَّا على الصَّبي -إلى أن قال:- ومَنْ كان على رأس فرسخَيْن)([7] ).


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص485، أبواب صلاه المسافر، باب11، ح2، ط آل البيت.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص485، أبواب صلاه مسافر، باب11، ح3، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص308، أبواب صلاه جمعه وآدابها، باب4، ح4، ط آل البيت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص309، أبواب صلاه الجمعه و آدابها، باب4، ح5، ط آل البيت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص309، أبواب صلاه اجمعه و آدابها، باب4، ح6، ط آل البيت.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص295، أبواب صلاه الجمعه وآدابها، باب1، ح1، ط آل البيت.
[7] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص297، أبواب صلاه الجمعه و آدابها، باب1، ح6، ط آل البيت.