الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/05/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: صلاة الجمعة وآدابها(4)

الجهة الثانية في الاستدلال بهذه الرِّوايات: هو سقوط الجمعة عمَّن بعُد عنها بفرسخين، فلو كان وجوبها تعييناً من غير اشتراط حضور الإمام (عليه السَّلام) أو نائبه الخاص لوجب على البعيدين الاجتماع، وإقامة الجمعة في أماكنهم.

لا يقال: إنَّ هذه الرِّوايات الدَّالة على السُّقوط على مَنْ بعُد عنها بفرسخين محمولة على عدم وجود من يصلح للإمامة فيهم، إذ يشترط أن يكون الإمام عادلا ، جامعاً لشرائط الإمامة مع معرفته بالخطبتين، فلا يكفي وجود المؤمنين في البلد مع عدم تحقُّق شرائط الإمامة في واحد منهم.

فإنَّا نقول أوَّلاً: أنَّه يوجد في أغلب البلدان والقرى من يصلِّي جماعة بالنَّاس، ومن المعلوم أنَّ أئمَّة الجماعة يقدرون على إقامة الجمعة، لا سيَّما مع الاقتصار في الخطبتين على أقلّ المجزئ، وهو سهل على أئمَّة الجماعة، فيقوم الإمام في الخطبة الأُولى فيحمد الله ويثني عليه، ويصلِّي على النَّبيّ (صلى الله عليه وآله) وآله، ويكفيه موعظة مختصرة، بأن يقول: يا أيُّها النَّاس! اتقوا الله، ويقرأ سورة خفيفة، ثمَّ يجلس قليلاً، وفي الثانية يقوم ويحمد الله، ويصلِّي على النَّبيّ (صلى الله عليه وآله) وآله (عليهم السَّلام)، ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات، وهذا ميسور لكل إمامٍ يقيم الجماعة، ولا يشترط في صلاة الجمعة خطبة طويلة عريضة.

وثانياً: لو فرضنا عدم وجود من يصلح للإمامة منهم فعلاً فعلى تقدير كون صلاة الجمعة واجبة عليهم تعيينيّاً فيجب عليهم حينئذٍ تحصيل شرائط الإمام، وتعلّم الخطبة على نحو الوجوب الكفائي، لأنَّ هذه الأمور تصبح من باب مقدمة الواجب، ومقدمة الواجب يجب تحصيلها.

وممَّا ذكرنا يتّضح لك ما في بعض الرِّوايات النافية لوجوبها على أهل القرى إذا لم يوجد مَنْ يخطب لهم، ما في صحيحة محمَّد بن مسلم عن أحدهما (عليه السَّلام) (قال: سألتُه عن أُناس في قرية هل يصلّون الجمعة جماعةً؟ قال: نعم (و) يصلّون أربعاً إذا لم يكن مَنْ يخطب)([1] ).

وصحيحة الفضل بن عبد الملك (قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) يقول: إذا كان قوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم مَنْ يخطب لهم جمعوا إذا كانوا خمس نفر، وإنّما جُعِلت ركعتين لمكان الخطبتين)([2] وكذا غيرها من الرِّوايات فإنَّ المراد بمَنْ يخطب أي من يخطب بالفعل، وهو المنصوب لذلك من قِبَل الوالي، وليس المراد بمَنْ يخطب مَنْ كان من شأنه أن يخطب، وإن لم يتمكّن من الخطبة فلا، فإنَّه خلاف الظَّاهر.

ولو كان المراد بمَنْ يخطب: أي من شأنه أن يخطب، لم يصحَّ تعليق وجوبها عليه، إذ يوجد في البلدان والقرى من يخطب لهم شأناً، ولا توجد بلدة ولا قرية إلَّا ويوجد فيها من يخطبهم كذلك. إذن يصبح تعليق وجوب صلاة الجمعة على وجود من يخطب شأناً لغواً، وكلام الإمام (عليه السَّلام) منزَّه عن اللغويَّة.

ومن هنا يتعيَّن حَمْل مَنْ يجب على الفعليَّة، وهو المنصوب من قِبَل الوالي.

أضف إلى ذلك: ما ذكرناه سابقاً من أنَّه توجد في البلدان والقرى من يصلِّي جماعة بالنَّاس، وقد عرفت أنَّ الخطبتين أمرهما سهل، فيستطيع إمام الجماعة أن يقيم الجمعة بسهولة، فما معنى التعليق حينئذٍ على وجود من يخطب لهم وهو موجود بالفعل؟! فمنه يتضح أنَّ المراد بمَنْ يخطب: أي المنصوب من قبل الوالي، والله العالم.

الطائفة الثانية من الرِّوايات: ما دلَّت على أنَّ الصَّلاة ركعتين إنَّما هو فيما إذا كانت مع الإمام، الظَّاهرة في كون المراد منه إمام الأصل، أو منصوبه، لا إمام الجماعة:

منها: ما رواه الشَّيخ الصدوق (رحمه الله) في عيون الأخبار والعِلل، بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السَّلام) (قال: إنَّما صارت صلاة الجمعة إذا كان الإمام ركعتين، وإذا كان بغير إمام ركعتين وركعتين، لأنَّ النَّاس يتخطون إلى الجمعة من بُعْد، فأحبّ الله عزَّوجل أن يخفِّف عنهم لموضع التَّعب الذي صاروا إليه، ولأنَّ الإمام يحبسهم للخطبة، وهم منتظرون للصَّلاة، ومنِ انتظر الصَّلاة فهو في الصَّلاة في حكم التمام، ولأنَّ الصَّلاة مع الإمام أتمّ وأكمل، لعلمه وفقهه وفضله وعدله، ولأنَّ الجمعة عيد، وصلاة العيد ركعتان، ولم تقصر لمكان الخطبتين.

وقال: إنَّما جُعِلت الخطبة يوم الجمعة لأنَّ الجمعة مشهد عام، فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطَّاعة وترهيبهم من المعصية، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم، ويخبرهم بما ورد عليهم من (الآفاق من) الأهوال التي لهم فيها المضرَّة والمنفعة، ولا يكون الصَّابر في الصَّلاة منفصلاً، وليس بفاعل غيره ممَّن يؤمّ النَّاس في غير يوم الجمعة، وإنَّما جُعِلت خطبتين ليكون واحدة للثناء على الله والتمجيد والتقديس لله عزّوجلّ، والأخرى للحوائج والأعذار والانذار والدُّعاء، ولما يريد أن يعلمهم من أمره ونهيه ما فيه الصَّلاح والفساد)([3] وهي ضعيفة، لعدم وثاقة كلٍّ من عبد الواحد بن محمَّد بن عبدوس النيشابوري، وعليّ بن محمَّد بن قُتَيبة؛ ووجه الاستدلال بهذه الرِّواية واضح.

أمَّا القول بوجود هذه الفقرة في الرِّواية، كما في العلل (وليس بفاعل غيره ممَّا يؤمّ النَّاس في غير يوم الجمعة)، فهي نص في المطلوب، حيث فرَّقت بين إمام الأصل، وبين من يؤمن النَّاس في سائر الأيام.

وأن الأوَّل هو الذي يقيم الجمعة، وأمَّا غيره فليس بفاعل، وأمَّا على القول بعدم وجود هذه الفقرة : (وليس بفاعل غيره...)، وكما في نسخة عيون الأخبار على ما ذكره صاحب الوسائل، فأيضاً تكون الرِّواية دالَّة على المطلوب، لأنَّ قوله: (لأنَّ الصَّلاة مع الإمام أتمّ وأكمل، لعلمه وفقهه وفضله وعدله)، ولأنَّ قوله أيضاً: (ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق، ومن الأهوال التي فيها المضرَّة والمنفعة...)، ظاهر جدّاً في كون المراد منه هو إمام الأصل أو المنصوب من قبله (عليه السَّلام).

والخلاصة: أنَّ هذه الرِّواية دالَّة على اشتراط الإمام (عليه السَّلام) أو نائبه الخاصّ في وجوب صلاة الجمعة تعييناً.

ولكن الذي يهوِّن الخطب أنّها ضعيفة، كما عرفت.

 

ومنها: موثَّقة سماعة (قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) عن الصَّلاة يوم الجمعة، فقال: أمَّا مع الإمام فركعتان، وأمَّا لمن صلَّى وحده فهي أربع ركعات، وإن صلّوا جماعة)([4] وهي واضحة جدّاً في مغايرة إمام الجمعة لإمام الجماعة، حيث دلَّت على أنّ وجوب صلاة الجمعة مشروط بحضور الإمام (عليه السَّلام)

وأمَّا مع عدم حضوره (عليه السَّلام) فلا يجب وإن وجد من يصلّي بهم جماعة، فيصلّون أربع ركعات.

وهذه الرِّواية رواها الكليني (رحمه الله) بنفس السَّند، ولكن مع تفسير من الإمام (عليه السَّلام) أو من سماعة ( قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه‌السلام عَنِ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَعَ الْإِمَامِ ، فَرَكْعَتَانِ؛ وَأَمَّا مَنْ يُصَلِّي وَحْدَهُ، فَهِيَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ بِمَنْزِلَةِ الظُّهْرِ، يَعْنِي إِذَا كَانَ إِمَامٌ يَخْطُبُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ يَخْطُبُ، فَهِيَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَإِنْ صَلَّوْا جَمَاعَةً)([5] وهي أيضاً دالَّة على المطلوب لِما ذكرناه سابقاً من أنَّ المراد من الإمام الذي يخطب هو إمام الأصل أو منصوبه، ولو لم يكن المراد منه ذلك لمَّا صحّ تعليق صلاة الرّكعتين على من يخطب إذ كلّ إمام جماعة يخطب.

واحتمال كونه لا يحسن الخطبة التي هي التحميد، والصَّلاة على النَّبيّ (صلى الله عليه وآله) وآله (عليهم السَّلام)، ويا أيُّها النَّاس اتَّقوا الله، وقراءة سورة خفيفة، في غاية البعد، كما أشرنا إليه سابقا.

نعم، روى الصَّدوق (رحمه الله) في الفقيه رواية سماعة هكذا (قال: صلاة الجمع مع الإمام ركعتان، فمَنْ صلَّى وحده فهي أربع ركعات)، ولا يوجد فيها: (وإن صلّوا جماعة).

ولكن هذا لا يضرّ بالاستدلال بموثَّقة سماعة المتقدّمة، لأنَّ الرِّواية التي رواها الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) هي رواية أخرى لسماعة، وليست نفس الرِّواية السَّابقة لاختلاف هذه الرِّواية عن سابقتها سنداً مع الاختلاف في بعض متنها.

وعليه، فلو فرضنا هذه الرِّواية لا تدلّ على المطلوب إلَّا أنَّ سابقتها تدلّ عليه.


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص206، أبواب صلاه الجمعه و ادابها، باب3، ح1، ط آل البيت.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص206، أبواب صلاه الجمعه و آدابها، باب3، ح2، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص313، أبواب صلاه الجمعه و آدابها، باب6، ح6، ط آل البيت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص314، أبواب صلاه الجمعه و آدابها، باب6، ح8، ط آل البيت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص310، أبواب صلاه الجمعه و آدابها، باب5، ح3، ط آل البيت.