الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/05/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: صلاة الجمعة وآدابها(3)

القول الثالث: هو القول بالتخيير، كما في القول الأوَّل، ولكن مع إضافةٍ، وهي أنَّه بعد الانعقاد تتعيَّن الجمعة؛ إذن لا يجب انعقادها تعييناً، ولكن إذا انعقدت وجب الحضور تعييناً، فالتخيير في الانعقاد فقط.

وهذا القول يظهر من أبي الصَّلاح (قدِّس سرُّه) في الانعقاد فقط، وهذا القول يظهر من أبي الصَّلاح (قدِّس سرُّه)، وقد يظهر هذا القول للشَّهيد في غاية المراد، حيث قال -بعد أن عنون كلام الإرشاد: وفي استحبابها حال الغيبة، وإمكان الاجتماع قولان-: (في استحباب الاجتماع لصلاة الجمعة في الحال المذكور -لا في إيقاع الجمعة، فإنَّه مع الاجتماع يجب الإيقاع وتتحقّق البدليَّة من الظّهر- قولان...)، وقد يظهر من غيره أيضاً.

القول الرابع: أنَّه يجوز إقامة الجمعة في عصر الغيبة، أي إنَّه مخيَّر بين الظُّهر والجمعة، ولكن يختصّ جواز إقامتها في زمان الغيبة بالمجتهد، وقد جزم بذلك المحقِّق الثاني (قدِّس سرُّه)، بل نزَّل كلمات القائلين بالجواز كلّها على ذلك، بحيث عدَّه من الأمور المسلّمة لديهم، قال في جامع المقاصد: ( فلا يشرع فعل الجمعة في الغيبة بدون حضور الفقيه الجامع للشَّرائط، وقد نبَّه المصنِّف على ذلك في المختلف، وشيخنا الشَّهيد في شرح الإرشاد، وما يوجد من إطلاق بعض العبارات فِعل الجمعة من غير تقييد، كما في عبارة هذا الكتاب، فللاعتماد فيه على ما تقرَّر في المذهب، وصار معلوماً، بحيث صار التقييد به في كلّ عبارة ممّا يكاد يعدّ تسامحاً (استدراكاً)).

القول الخامس: هو القول بالحرمة، أي لا يجوز لأحد عقدها في زمن الغيبة، وهو المحكي عن ابن إدريس وسلار والطَّبرسي والتُّوني وظاهر السِّيد المرتضى (رحمهم الله)، بل قيل: إنَّه يلوح من جُمل الشَّيخ والوسيلة والغُنية، واختاره بعض متأخِّري المتأخِّرين، منهم الفاضل الأصبهاني في كشف اللثا ، هذه هي الأقوال في المسألة.

أمَّا القول الأوَّل: فقدِ استُدل له بعدَّة أدلَّة:

منها: الإجماع المدَّعى على نفي التعيينيَّة، وقد نقلنا سابقاً بعض عبائر الأعلام النافية للإجماع، وفي شرح المفاتيح الإجماع متواتراً على نفي التعيينيَّة، بل قال في شرح المفاتيح: (إنَّ الناقلين للإجماع قد يزيدون عن عدد الأربعين...)، بل بناءً على مساواة الجمعة للعيد في اشتراط حضور الإمام (عليه السَّلام)، أو نائبه الخاصّ، تتكثَّر الأدلَّة الدالَّة على اشتراط حضوره (عليه السَّلام)، أو نائبه، في الوجوب التعييني من النصوص والإجماعات، ولعله يزيد عدد الناقلين للإجماع على السَّبعين، كما أنَّه يزيد النصوص الدالَّة على ذلك حينئذٍ على التواتر.

وعليه، فالإجماع حجَّة قطعيَّة، لأنَّه منقول بما يزيد عن التواتر، وليس الإجماع هنا منقول بخبر الواحد حتَّى يعترض عليه بأنَّه غير حجَّة، ولقد أجاد المحقِّق الهمداني (قدِّس سرُّه)، حيث قال: (والإنصاف: أنَّه لا يكاد يوجد فَرْع في الفِقه يمكن استكشاف رأي المعصوم فيه بالحَدْس، من باب الملازمة العادية، من إجماع العلماء، أوضح من المقام).

ومنها: السِّيرة التي ذكرها الأعلام الأجلَّاء، وهي أنَّه لو كانت صلاة الجمعة تُصلَّى في ذلك الوقت مع غير الإمام (عليه السَّلام)، أو نائبه الخاصّ على رأس كلِّ فرسخ لشاع وذاع، وصار معلوماً عن النِّساء والأطفال، فضلاً عن العلماء الأجلَّاء، أمناء الله في أرضه.

ولا ريب أنَّ هذه السِّيرة واصلة إلى الأجيال المتأخِّرة يداً بيد عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمَّة الأطهار، ولا ريب أيضاً في دلالتها على اشتراط حضور الإمام (عليه السَّلام) أو نائبه الخاصّ في الوجوب التعيييني، مع عدم صدور ما يدلّ منهم (عليهم السَّلام) على نفي الشَّرطيَّة.

والخلاصة: أنَّ السِّيرة استقرَّت على تعيين الإمام للجمعة في عصر النَّبيّ (صلى الله عليه وآله) ومن بعده، وعدم انعقادها إلَّا بمن عيّنوه، فلو كان وجوبها تعييناً على كلّ مسلم، من غير اشتراط ذلك بوجود إمام منصوب من قِبل الوالي، لما استقرّت السِّيرة على اختصاص إقامتها بالمعيَّن، بل كانت السِّيرة تجري على إقامتها في كلِّ بلدة أو قرية مشتملة على عدَّة بيوت من المسلمين بمقدار ما يمكن إقامة الجمعة فيها، لاسيَّما مع الاقتصار في الخطبتين على أقلّ المجزي الذي هو سهل على كل أحد في الخطبة الأولى، يقوم الإمام فيحمد الله ويثني عليه، ويصلّي على النَّبي وآله.

ويكفيه في الوعظ أن يقول: يا أيُّها النَّاس اتَّقوا ، ويقرأ سورة خفيفة، ثمَّ يجلس قليلاً، وفي الثانية يقوم ويحمد الله ويثني عليه، ويصلِّي على النّبيّ وآله عليهم السَّلام، ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات.

وهذا أمر ميسور لكلّ إمام يقيم الجماعة، ولا يعتبر في صلاة الجمعة خطبة طويلة.

والإنصاف: أنَّ هذه السِّيرة من أقوى الأدلَّة للقول الأوَّل.

ومنها: الرِّوايات، وقدِ استُدل بطوائف من الأخبار:

منها: الرِّوايات الكثيرة الدَّالة على سقوط الجمعة على مَنْ بعُد عنها بفرسخين، أو من إنْ صلَّى الغَدَاة في أهله لم يدركها، الدَّالة على وجوب السَّعي إليها على مَنْ كان منه على فرسخين:

منها: حسنة محمد بن مسلم (قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) عن الجمعة، فقال: تجب على كلِّ مَنْ كان منها على رأس فرسخين، فإن زاد على ذلك فليس عليه شيء)([1] ).

ومنها: صحيحة زرارة (قال : قال أبو جعفر (عليه السَّلام): الجمعة واجبة على مَنْ إن صلَّى الغَدَاة في أهله أدرك الجمعة)([2] ).

ومنها: رواية الفضل بن شاذان عن الرِّضا (عليه السَّلام) (إنَّما وجبت الجُمعة على مَنْ يكون على فرسخين لا أكثر من ذلك...)([3] وهي ضعيفة بجهالة بعض الأشخاص في السَّند، وكذا غيرها من الرِّوايات.

ووجه الاستدلال بهذا الرِّوايات من جهتين:

الأُولى: أنَّه لو وجب عقدها تعييناًلم يجب على مَنْ كان منها على رأس فرسخين السَّعي إليها، بل كان لمن بعد عنها بفرسخ -لعدم انعقادها جمعتين في الأقل من ذلك- أن يعقدها في مكانه مع نفر من أهله، من غير أن يتحمّل هذه المشقّة الشَّديدة، بل إذا لم تكن هي لشخص معيّن مكلّف بإقامتهالم يعقل وجوب السَّعي إليها، إذ لم يعلم حصولها جامعة للشَّرائط فيما بين فرسخين.

اللهمَّ إلَّا أن يبعث الشَّخص الصَّالح للإمام إلى جميع من كان دون الفرسخين من جميع الجهات، فيقول لهم: إنّي أريد أن أصلِّي الجمعة فاسعوا إليها.

وفيه: ما لا يخفى.


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص309، أبواب صلاه الجمعه و آدابها، باب4، ح6، ط آل البيت.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص307، أبواب صلاه الجمعه و آدابها، باب4، ح1، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص308، أبواب صلاه الجمعه و آدابها، باب4، ح4، ط آل البيت.