الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/02/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: التسليم في الصَّلاة(1)

قول الماتن: (ثم يجب التسليم آخر الصَّلاة)

الشرح: اختلف الأعلام في التسليم، هل هو واجب، أو مستحبّ؟ فأكثر الأعلام على أنَّه جُزء من الصَّلاة، واجب؛ وفي الجواهر -تعليقاً على قول المحقِّق: وهو واجب على الأصح-: (وفاقاً للصَّدوق والحسن والجعفي والمرتضى وابني حمزة وزهرة، وسلَّار والتقي ويحيى بن سعيد وأبي صالح وأبي سعيد من علمائنا الحلبيين -إلى أن قال:- بل لعلَّه هو الذي استقرَّ عليه المذهب في عصرنا وما راهقه، كما أنَّه في المحكي عن الرَّوض نسبته إلى أكثر المتأخِّرين، بل عن الأمالي نسبته إلى دين الإماميَّة...).

وفي المقابل: ذهب جماعة من الأعلام إلى أنَّه جُزء مستحبّ؛ قال في المدارك: (وقال الشَّيخان وابن البرَّاج وابن إدريس، وأكثر المتأخِّرين، بالاستحباب، وهو المعتمد...)، وفي جامع المقاصد نسبة القول بالاستحباب إلى أجلَّاء الأصحاب، وإلى الأكثر في تعليق النافع.

ونسَب القول بالاستحباب في الذِّكرى إلى أكثر القدماء، بل حُكيَ عن غاية المراد أنَّ الأصحاب ضبطوا الواجب والندب، وكلّهم جعلوه من قبيل الندب.

وهناك قول ثالث في المقام: وهو أنَّ التسليم واجب، ولكنَّه ليس جزءاً من الصَّلاة؛ ذهب إليه صريحاً صاحب الحدائق رحمه الله، ونسبه إلى جماعة، منهم الشهيد رحمه الله في قواعده، ثمَّ قال في الحدائق رحمه الله: (وممَّن يظهر منه الميل إلى هذا القول أيضاً الجعفي صاحب الفاخر، على ما نقله عنه في الذِّكرى من حكمه بعدم بطلان الصَّلاة بتخلّل الحدث، مع قوله: بوجوب التسليم؛ وبه صرَّح الفاضل أبو الفضائل أحمد بن طاووس الحسنى صاحب كتاب البشرى، حيث نُقِل عنه أنَّ التسليم واجب، وإنْ حصل الخروج من الصَّلاة قبله بقوله: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين؛ وإليه ذهب المحدِّث الكاشاني في المفاتيح والحر العاملي، وهو المختار الذي تجتمع عليه الأخبار...).

أقول: أمَّا القول الثالث فسيتضح حكمه عند الاستدلال للقولين الأوَّلين، مع قطع النظر عن صحَّة ما نسبه إليهم صاحب الحدائق رحمه الله.

ثمَّ إنَّ المراد من كون التسليم محلِّلا هو أنَّه سبب لفظي يترتب عليه عند الشَّارع حلّ المنافيات، وليس المراد من التحليل بالتسليم مجرد نفس الفراغ من الواجب، وإلَّا لكان آخر كلّ واجب تحليلاً.

وقدِ اتَّضح ممَّا ذكرنا أنَّه على القول باستحباب التسليم يحصل التحليل بالتشهُّد، كما لا يخفى.

ثمَّ إنَّه قد عرفت أنَّ جماعةً كثيرةً من العلماء ذهبوا إلى استحباب التسليم؛ ولكن ذَكَر السَّيد الخوئي رحمه الله أنَّه (قد تصدَّى بعض لرفع الخلاف، وأقام شواهد من كلماتهم تقضي باتِّفاق الكلّ على الوجوب، وأنَّ من كان ظاهره الاستحباب يريد به السَّلام الأخير، لدى الجمع بينه وبين الصِّيغة الأُولى، أعني: قول السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، لا مطلق السَّلام؛ تعرَّض لذلك شيخنا في الجواهر، تبعاً للسَّيد في منظومته()، وتبعه المحقِّق الهمداني(2)، منكرين للخلاف في المسألة؛ وما ذكروه، وإن كان وجيهاً بالنَّظر إلى كلمات بعض القائلين بالاستحباب، لكنَّه لا يتمّ في كلمات جميعهم، بحيث يتحقَّق الاتِّفاق من الكلّ على الوجوب، كما لا يخفى على مَنْ لاحظها)[1]

أقول: ما نسبه السَّيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله إلى صاحب الجواهررحمه الله، والمحقِّق الهمداني رحمه الله، ليس دقيقاً، لأنَّهما لم يذكرا أنَّ ذلك هو مراد كلّ من قال بالاستحباب، بل مرادهما الكثير منهم أو البعض.

قال في الجواهر: (نعم، يمكن أن يريدوا خصوص الصِّيغة الثانية المعروفة بالتسليم -إلى أن قال:- إلى غير ذلك من الشَّواهد الكثيرة الدَّالة على إرادة بعض من نسب إليه من قدماء الأصحاب الندب في الجملة، لا مطلق التسليم...).

وقال المحقِّق الهمداني رحمه الله: (ولكن لا يبعد أن يكون مراد كثير من القدماء -الذي نسب إليهم القول بالاستحباب- خصوص الصِّيغة الأخيرة، أي: السَّلام عليكم- لدى الجمع بينه وبين الصِّيغة الأولى، لا مطلق التسليم...).

___________

(1) الدرة النجفية: ص144.

(2) مصباح الفقيه (الصَّلاة): 347، س25.

 

وبالجملة، وإن أمكن أن يكون مراد بعض من قال بالاستحباب هو خصوص الصِّيغة الأخيرة، لا مطلق التسليم، إلَّا أنَّه لا يمكن أن يكون مراد جميعهم ذلك، كما لا يخفى على من لاحظ كلماتهم.

ثمَّ إنَّه قبل الاستدلال للطَّرفين، نقول: إنَّ أبا حنيفة جوَّز الخروج من الصَّلاة بغير التسليم من الأفعال المنافية لها، فخيّر بين التسليم وبين الحدث وغيره من المنافيات.

ولعلَّ الذي ألجأه إلى التخيير المزبور -كما قال صاحب الجواهر ¬- أنَّه راعى التناسب بين أفراد ما ابتدعه من الصَّلاة وبين المحلِّل لها، إذ منها عنده -بعد الوضوء بنبيذ التمر المغصوب منكوساً- الصَّلاة في الدَّار المغصوبة، على جلد كلب، لابساً لجلد كلب، وبيده قطعة من لحم كلب، وعليه نجاسة، ثمَّ يكبِّر بالفارسيَّة، ويقرأ كذلك {مدهامتان}، ثمَّ يطأطئ رأسه حدّاً يسير، غير ذاكر ولا مطمئنّ، ثمَّ يهوي إلى السُّجود من غير رفع، ثمَّ يحفر حفيرةً لينُزل جبهته، أو أنفه فيها، من غير ذكر، ولا طمأنينة، ولا رفع بينهما، ثمَّ يقعد من غير تشهُّد، وهذه لا يناسبها إلَّا التحليل بضرطة قطعاً، وحقّ للآمر بها أن يأمر بهذا المحلِّل لها.

إذا عرفت ذلك، فقدِ استُدلّ للقول بالوجوب والجزئيَّة بعدَّة أدلَّة:

منها: مداومة النّبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمة عليهم السَّلام على فعله، وهذا ممَّا لا ينبغي إنكاره، وكذا مداومة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.

وعن غوالي اللئالي (في الأحاديث الصَّحيحة أنَّ النَّبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يقول: التسليم المخرِج من الصَّلاة عقيب كلّ صلاته، وكان يواظب عليه، وكذا الأئمة عليهم السَّلام...).

وفي الذكرى: (تواتر النقل عن النّبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته عليهم السَّلام بقولهم: (السَّلام عليكم)، من غير بيان ندبيته، مع أنَّه امتثال للأمر بالواجب -إلى أن قال:- حتَّى أنَّ قول سلف الأمة (السلام عليكم) عقيب الصَّلاة داخل في ضروريَّات الدين...).

وقد أجيب عن ذلك: بأنَّ التأسِّي بالنَّبيّ (صلى الله عليه وآله) ، والأئمة عليهم السَّلام، لا يدلّ على الوجوب، بل هو فِعْل مجمل، والقدر المتيقن منه هو الاستحباب.

وبالجملة، فمواظبة النّبيّ (صلى الله عليه وآله) وآله أعمّ من الوجوب، والعام لا يستلزم الخاصّ، وليس ذلك بأبلغ من المواظبة على رفع اليدين بتكبيرة الإحرام مع استحبابه اتفاقاً.

ولكنَّ الإنصاف: أنَّه يمكن استفادة الوجوب من مجرد الالتزام بذلك، على وجه لم يعلم مثله في غيره من المندوبات، خصوصاً ولم يرد فيه ما يقتضي عظم الثواب وشدَّة الترغيب فيه، كما ورد في باقي المستحبَّات التي مع ذلك لم يحافظ عليها الخواصّ، فضلاً عن العوامّ بعض هذه المحافظة.

وكيف يسوغ لصاحب الشَّرع عدم التصريح بالندب، والإعلان به، مع علمه بفعل جميع أتباعه له بعنوان الوجوب؟!

وليس هذا إلَّا من التقرير المعلوم حجيته مع قطع النَّظر عن التأسِّي بفعله (صلى الله عليه وآله)، بل في الواقع هذه سيرة المسلمين مستمرة في سائر الأعصار والأمصار من الخواصّ والعوام، مع سكوت العلماء عن النكير على اعتقاد الوجوب.

ومنها: نصوص التحليل، وهي ثمانية روايات، ولا إشكال في كونها مستفيضة، ولكن كلّها ضعيفة السَّند:

الأُولى: رواية القداح المرويّة في الكافي عن أبي عبد الله عليه السَّلام (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): افتتاح الصَّلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)(1)، وهي ضعيفة بسهل بن زياد، وعدم وثاقة جعفر بن محمَّد الأشعري، كما أنَّه لم يمدح مدحاً معتداً به؛ ووجوده في كامل الزِّيارات لا ينفع، لأنَّه ليس من مشايخه المباشرين.

وأمَّا علي بن محمَّد الذي يروى عنه الكليني رحمه الله ، فهو ابن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني ، وهو ثقة ؛ وأمَّا القداح فهو عبد الله بن ميمون وهو ثقة.


[1] المستند في شرح العروة الوثقی، الخوئي، السيد أبوالقاسم - الشيخ مرتضی البروجردي، ج15، ص294.