الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/02/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: السُّجود في الصَّلاة(15)

 

أمَّا الدَّلالة: فهي لا تدلّ على الوجوب أيضاً، لأنَّ التعليل -وهو قوله عليه السلام (فإنَّ ذلك من فعلنا)- يجعلها ظاهرة في الاستحباب، لا لكون هذا التعليل منافياً للوجوب، بل لأنَّ نحو هذا الكلام من علائم الاستحباب، كما لا يخفى على مَنْ له أُنْس بلسان الأخبار._____________

(1) الوسائل باب5 من أبواب السُّجود ح3.

(2) الوسائل باب1 من أبواب أفعال الصَّلاة ح16.

 

ومنها: المروي عن كتاب زيد النُّرسي (قال: سمعتُ أبا الحسن عليه السلام يقول: إذا رفعتَ رأسك من آخر سجدتك في الصَّلاة، قبل أن تقوم، فاجلس جِلسةً، ثمَّ بادر بركبتيك إلى الأرض قبل يديك، وابسط يديك بسطا، واتكِ عليهما، ثمَّ قُمْ، فإنَّ ذلك وقار المؤمن الخاشع لربِّه، ولا تطيش من سجودك مبادراً إلى القيام كما يطيش هؤلاء الأقشاب في صلاتهم)[1] ، وهي أيضاً ضعيفة سنداً ودلالةً.

أمَّا سنداً: فلأنَّ زيداً النُّرسي غير موثَّق؛ ووجوده في كامل الزّيارات غيرُ نافعٍ، لعدم كونه من مشايخه المباشرين، وذكرنا سابقاً أنّ كتابه ليس موضوعاً، بل هو ثابت، وللنجاشي رحمه الله طريق حسن إليه.

وأمَّا الدَّلالة: فهي ضعيفة أيضاً، لأجل التعليل في ذيلها، فإنَّ كون ذلك من وقار الصَّلاة يكشف عن كون جِلسة الاستراحة مستحبّ.

ومنها: صحيحة أبي بصير ( قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: وإذا رفعت رأسك من الرُّكوع، فأقم صلبك حتَّى ترجع مفاصلك، وإذا سجدت فاقعد مثل ذلك، وإذا كان في الرّكعة الأُولى، والثانية فرفعت رأسك من السُّجود فاستتم جالساً حتَّى ترجع مفاصلك، فإذا نهضت فقل: بحول الله وقته أقوم وأقعد، فإنّ عليًّا عليه السلام هكذا كان يفعل)[2] ؛ هكذا رواها صاحب الوسائل رحمه الله.

ولكنَّ الصَّحيح هكذا: (وإذا كان في الرّكعة الأولى والثالثة...) ، لا (الثانية)، لأنَّه في الرّكعة الثانية لا بدّ من الجلوس للتشهّد.

ومهما يكن، فإنّ الرِّواية صحيحة، لأنَّ داود الخندقي الموجود في السَّند وثّقه الشَّيخ المفيد رحمه الله، إلَّا أنّ دلالتها ضعيفة، لأنَّ التعليل بأنّ عليًّا عليه السلام هكذا كان يفعل، يجعلها ظاهرةً في الاستحباب.

ومنها: صحيحة عبد الحميد بن عوَّاض عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: رأيته إذا رفع رأسه من السَّجدة الثانية من الرّكعة الأُولى جلس حتَّى يطمئن، ثمَّ يقوم)[3] .

وفيه -ما ذكرناه في أكثر من مناسبة-: أنَّه حكايةُ فعلٍ، وهو مجمل، والقدر المتيقَّن منه هو الاستحباب.

وعليه، فلا تدلّ على الوجوب.

ومنها: صحيحة الأزدي عن أبي عبد الله عليه السلام -حيث ورد في ذيله- ( وإذا سجد فَلْينفرج، وَلْيتمكّن[4] ، وإذا رفع رأسه فَلْيلبث حتَّى يسكن) ؛ والأمر ظاهر في الوجوب، ولا يوجد في الرِّواية قرينة تجعله ظاهراً في الاستحباب.

ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين الرّفع عن السّجدة الأُولى، أو الثانية الذي هو محل الشّاهد؛ ولكن سيأتي -إن شاء الله تعالى- محمولة على الاستحباب، للرّوايات الدّالة على جواز الترك، أو يقيَّد إطلاقها برفع الرَّأس عن السّجدة الأُولى.

ومنها: رواية الأصبغ بن نباتة (قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا رفع رأسه من السُّجود قعد حتَّى يطمئن، ثمَّ يقوم، فقيل له: يا أمير المؤمنين! كان من قبلك أبو بكر وعمر إذا رفعوا رؤوسهم من السُّجود نهضوا على صدور أقدامهم، كما تنهض الإبل، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إنَّما يفعل ذلك أهل الجفاء من النَّاس، إنَّ هذا من توقير الصَّلاة)[5] ؛ وهي ضعيفة سنداً ودلالةً.

أمَّا سنداً: فلاشتمال السَّند على عليّ بن الحزور، وهو غير موثَّق.

_____________

وأمَّا دلالةً: فلأنَّ التعليل بأنَّ هذا من توقير الصَّلاة، يجعلها ظاهرةً في الاستحباب؛ هذا غاية ما يمكن أن يستدلّ به للوجوب، وقد عرفت ما فيه.

نعم، صحيحة الأزدي تامَّة من حيث السَّند والدَّلالة، كما أنَّ رواية أبي بصير الأُولى تامَّة الدَّلالة، بناءً على أنَّها موثَّقة.

ولكن مع ذلك يحمل الأمر في صحيحة الأزدي، وفي رواية أبي بصير على الاستحباب، جمعاً بينهما وبين موثَّقة زرارة (قال: رأيتُ أبا جعفر وأبا عبد الله عليه السلام إذا رفعا رؤوسهما من السّجدة الثانية نهضا، ولم يجلسا)[6] ، وهي صريحة أو ظاهرة جدّاً في عدم الوجوب؛ والرَّواية موثَّقة أو صحيحة .

والمراد من الحجَّال الوارد في السَّند إمَّا أبو محمَّد الحسن بن عليّ أو عبد الله بن محمَّد الأسدي، وكلّ منهما ثقة، وأمَّا غيرهما فلا ينصرف إليه اللفظ.

هذا، وقد أشكل السَّيد محسن الحكيم رحمه الله على الدَّلالة، حيث قال: (وفيه: أنَّه لا ريب في رجحان الجلوس، فمواظبتهما عليهما السلام على الترك لابد أن تكون لعذر وراء الواقع، فلا يدلّ على عدم الوجوب، مع أنَّه معارَض بصحيح عبد الحميد السّابق...) .

أقول: لا يوجد في الموثَّقة ما يدلّ على مواظبتهما عليهما السلام على الترك، فإنَّ لفظة (إذا) لا دلالة فيها على الدَّوام.

ولو كانت الرِّواية هكذا: كان أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام إذا رفعا رؤوسهما...، لكانت دالةً على الدَّوام.

ولكنَّ الرِّواية ليست هكذا كما عرفت، فلا إشكال أصلاً.

كما أنَّه لا تعارض بينها وبين صحيحة عبد الحميد المتقدِّمة، إذ لا مانع من أنْ يرى عبد الحميد الإمام عليه السلام يجلس جِلسةَ الاستراحةِ، ويراه زرارة مرةً أخرى لا يجلسها.

وعليه، فالإنصاف: أنَّ موثَّقة زرارة توجب حمل الأمر في الرِّوايات السَّابقة على الاستحباب، أو تكون مقيَّدة لإطلاق صحيحة الأزدي، أي تُقيّدها برفع الرّأس عن السَّجدة الأُولى.

ثمَّ إنَّه قدِ استدلّ جماعة من الأعلام على استحباب جِلسة الاستراحة برواية رحيم (قال: قلتُ لأبي الحسن الرّضا عليه السلام: جعلت فداك! أراك إذا صليتَ فرفعتَ رأسكَ من السُّجود في الرّكعة الأُولى، والثالثة، فتستوي جالساً، ثمَّ تقوم، فنصنع كما تصنع؟ فقال: لا تنظروا إلى ما أصنع أنا، اِصنعوا ما تؤمرون)[7]

وفيها أوَّلاً : أنَّ رحيم الملقّب بعبدوس الخلنجي غير موثّق، ووجوده في كامل الزيارات لا ينفع، لعدم كونه من المشايخ المباشرين.

وثانياً: أنَّها محمولة على التقيَّة، لوجود قرينة فيها، وهي منعه عليه السلام عن أن يصنع كما يصنع هو عليه السلام، مع أنَّه لا إشكال في رجحان جِلسة الاستراحة،

وعليه، فلا يمكن حمل الأمر الظاهر في الوجوب في الروايات السابقة على الاستحباب لأجل هذه الرِّواية.

والذي يهوِّن الخطب: أنَّها ضعيفة السَّند.

والخلاصة إلى هنا: أن مقتضى الصناعة وإن كان هو استحباب جلسة الاستراحة، إلَّا أن الأحوط وجوبا عدم تركها، والله العالم بحقائق أحكامه.

____________


[1] مستدرك الوسائل، المحدّث النوري، ج4، ص456.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص465، أبواب الصلاه، باب1، ح9، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج6، ص346، أبواب السجود، باب5، ح1، ط آل البيت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج4، ص35، أبواب اعداد الفرائض و نوافلها، باب8، ح14، ط آل البيت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج6، ص347، أبواب السجود، باب5، ح5، ط آل البيت.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج6، ص346، أبواب السجود، باب5، ح2، ط آل البيت.
[7] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج6، ص347، أبواب السجود، باب5، ح6، ط آل البيت.