الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/02/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: السُّجود في الصَّلاة(14)

 

وعليه، فالطبيعة، أو النكرة الواقعة في سياق النهي، إنَّما تقتضي التعميم في أفراد المعنى، لا المعنى الآخر.

ولقد أجاد المحقِّق المجلسي رحمه الله في البحار، حيث قال: (إنَّ المعنى المشتهر بين اللغويين خلاف ما هو المستحبّ من التورُّك، أما إثبات كراهته فمشكل، لأنَّه لا يدلّ على كراهته ظاهراً إلَّا أخبار الإقعاء، وهي ظاهرة في معنى آخر مشتهر بين الأصحاب، ومخالفتهم...).

وعليه، فالأقوى أنَّ النهي إنَّما هو بالمعنى المعروف عن الفقهاء.

ويشهد لذلك: أنَّ النهي في هذه الرّوايات إنّما جارٍ رداً على ما يفعله أبناء العامَّة، وأنَّه مستحبّ، وسنَّة عند جماعة منهم، قال في المحكي عن شرح صحيح مسلم: (اِعلم أنَّ الإقعاء ورد فيه حديثان، أحدهما: أنَّه سنَّة، وفي حديث آخر: النهي عنه، وقدِ اختلف في العلماء، وفي حكمه، وتفسيره، اختلافاً كثيراً.

والصواب الذي لا معدل عنه: أنَّ الإقعاء نوعان:

أحدهما: أنْ يلصق إليَيْه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض، كإقعاء الكلب- إلى أن قال:- وهذا النوع هو المكروه الذي ورد النهي عنه.

والنوع الثاني: أن يجعل إليَيْه على عقبَيْه بين السَّجدتين، وهذا هو مراد ابن عباس: أنَّه سنّة، وقد نصّ الشّافعي على استحبابه في الجلوس بين السَّجدتين...).

وقد ذكرنا سابقاً أنَّ الذي يستعمله أبناء العامَّة هو بالمعنى المعروف عند الفقهاء، وإلَّا فذاك قلَّ ما يفعله أحد.

على أنَّه هو جلوس القُرْفُصَاءَ التي هي إحدى جلسات النبي (صلى الله عليه وآله)، وأفضل الأحوال في النافلة، وغيرها ممَّا يصلّى من جلوس، وأفضل جلوس المرأة.

وعليه، فمن جميع ذلك يعلم أنَّ المراد بالإقعاء هنا ما هو المعروف عند الفقهاء، لا اللغوي.

ولا ينافيه ما في رواية معاوية بن عمَّار وابن مسلم والحلبي المتقدّمة، من التشبيه بإقعاء الكلب، إذ هو -مع أنَّه عبارة لهم، لا من المعصوم ﭺ- في أحد الوجهين في هذه الكيفيَّة شبيه بإقعاء الكلب أيضاً، وإلَّا فهما معاً لا ينطبقان على إقعاء الكلب، ضرورة افتراش ساقيه وفخذيه ، بخلاف الرَّجل فإنَّه ينصبهما.

ولعلَّه لذا أخذ بعضهم مع ذلك وضع اليدين على الأرض لتحصيل المشابهة له.

وممَّا ذكرنا يتضح لك أيضاً عدم كراهة الجلوس على بطون القدمين بافتراش ظاهرهما على الأرض، ولا كراهة الجلوس بأن يجعل باطن قدميه على الأرض، غير موصل إليَيْه إلى الأرض، رافعاً فخذيه وركبتيه إلى قريب ذقنه، كما يتجافى المسبوق.

ولا كراهة في جلوسه على إليته اليسرى، مفترشاً لفخذه وساقه اليسريين، أو غير مفترش، ناصباً لليمينين، أو غير ناصب.

وإن كان الأحوط والأَولى: ترك الجلوس على هذه الوجوه الأربعة، والله العالم.

قوله: (وجِلسة الاستراحة متورِّكاً، وهي عقيب الثانية، حيث لا تشهُّد، وأوجبها المرتضى)

المعروف بين الأعلام استحباب جلسة الاستراحة، وهي عقيب الثانية، حيث لا تشهُّد فيها، وفي المدارك (استحباب هذه الجِلسة مذهب الأكثر...)؛ وفي الجواهر: (واستحبابها مشهور بين الأصحاب، بل في المنتهى أنَّه مذهب علمائنا، إلَّا السَّيد المرتضى، وفي المعتبر نسبته إلى أكثر أهل العلم، بل عن كشف الحقّ، وتخليص الخلاف، الإجماع عليه...).

وبالمقابل حُكي عن السَّيد المرتضى رحمه الله القول: بوجوبها، محتجّاً عليه بالإجماع.

وربَّما استُظهر هذا القول من غير واحد من القدماء، كالصَّدوق والإسكافي وابن أبي عقيل (رحمهم الله)، وعن كاشف اللثام رحمه الله الميل إليه، واختاره صريحاً صاحب الحدائق رحمه الله.

أقول: قد يستدلّ للقول بالوجوب بالإجماع المدَّعى من السَّيد المرتضى رحمه الله، وبجملة من الرّوايات.

أمَّا الإجماع المدَّعى من السِّيد المرتضى -وهو الإجماع الدخولي-: فقد ذكرنا في علم الأصول أنَّ أدلَّة حجّية خبر الواحد، وإن كانت تشمل الإجماع الدخولي، إلَّا أنَّه لا صغرى له، لأنَّ الإجماعات المحكيَّة إمَّا من باب قاعدة اللطف، كما هو مبنى الشَّيخ الطوسي رحمه الله، أو من غيرها من الطرق المذكورة في محلّها.

وقد بيّنا في علم الأصول أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد لا تشمل هكذا إجماعات.

وأمَّا الرِّوايات فهي كثيرة:

منها: رواية أبي بصير (قال: قال أبو عبد الله عليه السلام : إذا رفعتَ رأسك في (من) السَّجدة الثانية من الرِّكعة الأُولى -حين تريد أن تقوم- فاستوِ جالساً، ثمَّ قم)(1)؛ وقد عبَّر جماعة من الأعلام عن هذه الرِّواية بالموثَّقة.

ولكنَّ الإنصاف: أنَّها ضعيفة بالإرسال، لأنَّ الشَّيخ رحمه الله لم يذكر طريقه في هذه الرِّواية إلى سماعة الذي روى عن أبي بصير، وإن كان أحياناً يذكر إسناده إليه في بعض الرّوايات الأخرى، كما في باب النكاح وباب الصيد والذّكاة، وفي باب الاعتكاف، وفي باب الدّيون، وطريقه إليه في تلك الرّوايات صحيح.

اللهمَّ إلَّا أن يُقال: إنَّ إسناده إلى سماعة في هذه الرِّواية يراد منه الإسناد المذكور في تلك الرّوايات، فتخرج عن الإرسال، وتصبح الرِّواية موثَّقة.

وأمَّا القول: بأنَّ الشَّيخ الصَّدوق رحمه الله له طريق صحيح إلى سماعة، وأن الشَّيخ له طريق صحيح إلى جميع كتب الشَّيخ الصَّدوق رحمه الله، ورواياته، فلا ينفع أيضاً، لأنَّ هذه الرِّواية ليست موجودةً في كتب الشَّيخ الصَّدوق رحمه الله ورواياته؛ فما الفائدة في وجود الطّريق الصّحيح إلى كتب الشَّيخ الصَّدوق رحمه الله إذا لم تكن الرِّواية موجودة فيها .

ثمَّ إنّ ظاهر الأمر في الرِّواية الوجوب.

هذا، وقدِ احتمل السَّيد محسن الحكيم رحمه الله في المستمسك أنَّ الأمر بالاستواء جالساً وارد مورد توهُّم عدم المشروعيَّة، فلا تكون دالَّةً على الوجوب.

وفيه: أنَّ هذا الاحتمال بعيد، بل الأمر فيها محمول على الاستحباب، كما احتمله أيضاً السّيد محسن الحكيم رحمه الله، وسيتضح لك ذلك - إن شاء الله تعالى-.

ومنها: ما في حديث الأربعمائة ( قال: لِيَخْشع الرَّجل في صلاته، فإنَّ مَنْ خشع قلبه لله عزَّوجل خشعت جوارحه، فلا يعبث بشيء، اجلسوا في الرّكعتين حتَّى تسكن جوارحكم، ثمَّ قوموا فإنَّ ذلك من فعلنا ...)(2)، وهو ضعيف سنداًَ ودلالة.

أمَّا سنداً فلاشتماله على القاسم بن يحيى، وجدِّه الحسن بن راشد ، فإنَّهما غير موثقَيْن.

هذا، وقد حاول السَّيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله تصحيح السَّند بقوله: ( لكن يكفي وقوعهما بعين هذا السَّند - أي القاسم بن يحيى عن جدِّه الحسن بن راشد- في أسانيد كامل الزيارات.

ويؤكِّده أنَّ الصَّدوق رحمه الله اختار في باب الزّيارات رواية قال: إنَّها أصح الروايات التي وصلت إليَّ، مع أنَّ في طريقها أيضاً القاسم بن يحيى عن جدِّه الحسن بن راشد، فهذا توثيق منه قدس سره لهما...).

وفيه: أنَّ وجودهما في كامل الزيارات لا ينفع، لعدم كونهما من مشايخه المباشرين؛ كما أنَّ وصف الشَّيخ الصَّدوق رحمه الله لرواية هما في طريقها بأصحّ الرّوايات لا ينفع، لأنَّ التصحيح لا يلازم التوثيق لِمَا عرفت في مباحث علم الرّجال أنّ الصّحّة عند المتقدّمين تختلف عن الصّحّة عند المتأخّرين، فإنّ الصّحة عند المتقدّمين عبارة عن صدور الرِّواية عن المعصوم، ولو لقرائن، وإنِ اشتمل الطريق على ضعيف ، أو أكثر.

وعليه، فلا ملازمة بين وصف الرِّواية بالصّحّة وبين توثيق رواتها؛ هذا بالنسبة للسّند .