الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

38/07/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القراءة في الصَّلاة(51)

 

الأمر الرابع : ذكر جماعة من الأعلام أنَّ العدول من التوحيد والجحد إلى الجمعة والمنافقين إنَّما هو إذا لم يبلغ النصف ، منهم المصنِّف هنا ، وابن إدريس في السّرائر ، والشّهيد الثاني في الروض ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد (رحمهم الله جميعاً) ، بل عن البحار نسبته إلى الأكثر .

ولعل ذهابهم إلى ذلك هو لأجل الجمع بين هذه النصوص وبين الرّوايات المتقدّمة الدّالة على عموم المنع إذا بلغ النصف .

وأمَّا الشَّيخ الطوسي رحمه الله فقد أطلق الرّجوع من السّورتين إلى السّورتين من غير تقييد ببلوغ النصف أو تجاوزه ، بل هو صريح بعض متأخِّري المتأخِّرين ، وذلك لإطلاق الأمر به في النصوص السَّالم عن المعارِض .

ومن هنا قال في مجمع البرهان : (لا أرى دليلاً على عدم جواز الرّجوع مع تجاوز النصف)[1] .

أقول : كأنَّ من أطلق الرّجوع لم يرَ أنَّ الرِّوايات المتقدِّمة الدَّالة على عموم المنع إذا بلغ النِّصف معارِضة لهذه الرِّوايات الدَّالة على جواز العدول من السُّورتين إلى السُّورتين .

وهذا هو الإنصاف ، إذ لا معارض لهذه الرِّوايات الدَّالة على جواز العدول منهما إلى السُّورتين ، لأنَّ موثَّقة عبيد بن زرارة المتقدِّمة (في الرَّجل يريد أن يقرأ السُّورة فيقرأ غيرها ، قال له : أن يرجع ما بينه وبين أن يقرأ ثُلُثيها)[2] ، الدَّالة على المنع من العدول بعد بلوغ الثُلُثين هي مطلقة من حيث المعدول منه والمعدول إليه .

وهذه الرِّوايات الدَّالة على جواز العدول من السُّورتين إلى السُّورتين مطلقاً أخصّ منها فتكون هي المقدِّمة .

الأمر الخامس : صرَّح جملة من الأعلام منهم المحقِّق والشَّهيد الثانيان بأنَّ جواز العدول من التوحيد والجحد إلى السُّورتين مشروط بكون قرائتهما على وجه السَّهو والنسيان ، وحينئذٍ فلو كان عمداً فإنَّه لا يجوز له الرُّجوع ، وكأنَّه لاختصاص صحيحة ابن مسلم المتقدِّمة بالناسي (في الرَّجل يريد أن يقرأ سورة الجمعة في الجمعة ، فيقرأ {قل هو الله أحد} ، قال : يرجع إلى سورة الجمعة) [3] ، فإنَّ ظاهرها أنَّ القصد كان لسورة الجمعة ، وأنّ قراءة التوحيد إنّما وقع لا عن قصد بل سهواً ، ونحوها صحيحة الحلبي[4] .

وفيه : أنَّ صحيحة عليّ بن جعفر المتقدِّمة تشمل العامد أيضاً ، حيث ورد فيها ( وإنْ أخذتَ في غيرها ... ) [5] ، فإنّ الأخذ بغيره أعمّ من أن يكون عمداً أو سهواً .

وقد عرفت أنَّ الرّواية صحيحة لأنّها مذكورة في كتاب علي بن جعفر ، وقد غفل صاحب الوسائل رحمه الله عن الإشارة إلى وجودها في الكتاب ، والعصمة لأهلها ، ولا تنافي بينها وبين صحيحتي محمَّد بن مسلم والحلبي ، لأنَّ هذه الصِّحاح كلّها مثبتة مع عدم كون المطلوب على نحو صرف الوجود .

قوله : (وإذا عدل أعاد البسملة)[6]

إذا عين البسملة لسورة خاصة ، ثمَّ عدل عنها ، فلا يجوز الاكتفاء بها ، بل تجب إعادة البسملة لأنَّه بالتعيين تخرج البسملة عن صلاحيّة الجزئيّة لما عداها ، لأنّ البسملة آية من كلّ سورة ، وقد قرأها أوّلاً بنيّة السُّورة المعدول عنها ، فلا تحسب من المعدول إليها .

وأمَّا لو قرأها على جهة الإبهام والإجمال ، فهل يجب إعادتها إذا عدل - هذا ما سنحققه إن شاء الله تعالى في المسألة الآتية - ؟

 

قوله : (وكذا لو بسملة بغير قصد السُّورة ، قصد وأعاد)

في الجواهر : (الأكثر - كما عن البحار ، بل في الحدائق - أنَّه المشهور بين الأصحاب على وجوب تعيين السُّورة بعد الحمد قبل الشّروع في البسملة المشتركة بين السُّور المتعدِّدة ، فلا تتعين جُزءاً من السُّورة الخاصَّة إلَّا بنيّتها على حسب غيرها من المشتركات بين القرآن وغيره ... )[7] .

وبالمقابل ذهب جماعة من الأعلام إلى عدم وجوب تعيين السُّورة قبل الشُّروع في البسملة ، منهم صاحب الحدائق وصاحب الجواهر والمحقِّق الهمداني ، وصاحب العروة (رَحِمَهُمُ الله جَمِيْعاً) ، وغيرهم من الأعلام .

أقول : لا بدَّ من تقديم مقدِّمة قبل بيان ما هو الإنصاف في المسألة .

وحاصلها : أنَّ قراءة القرآن لا تصدق إلَّا بالإتيان بألفاظ مماثلة للألفاظ النازلة على قلب النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله) بقصد حكايتها ، وبدون هذا القصد لا يصدق أنَّه قرأ القرآن .

وعليه ، فالمحكي هي الألفاظ الشخصيَّة التي نزل بها جبرائيل عليه السلام ، فلو تكلَّم بداعٍ آخر غير قصد الحكاية لم يصدق عليه قراءة القرآن وإن كان متحداً مع ألفاظ القرآن ، فلا بدَّ في قراءة القرآن الكريم من اللحاظ الاستعمالي للمقروء ، ولا يكفي مجرد التلفُّظ بالألفاظ المطابقة للمقروء مع عدم لحاظه وقصده ، فإن ذلك ليس قراءةً له ، بل قول مطابق له ، فما يجري على لسان السَّكران والنائم والمجنون من التلفُّظ ببعض آيات القرآن لا يكون ذلك قراءةً للقرآن لانتفاء قصد الحكاية ، وانتفاء اللحاظ الاستعمالي .

وعليه ، فقصد حكاية الألفاظ التي نزل بها جبرائيل عليه السلام على قلب النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله) عند التلفُّظ بالألفاظ المطابقة لها شرط أساسي في صدق قراءة القرآن ، فلو قال المصلِّي في أثناء الصَّلاة {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى}[8] قاصداً به حكاية كلام الله تعالى ، أو قال : {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى}[9] قاصداً به حكاية كلام الله تعالى ، لصدق عليه قراءة القرآن .

وأمَّا لو قصد به الإخبار ، أو حكاية كلام شخص آخر ، لاندرج في كلام الآدميين المبطِل للصَّلاة .

إذا عرفت ذلك فنقول : إنَّه قدِ استُدل لوجوب تعيين السُّورة قبل الشُّروع في البسملة بأنَّ كلَّ سورة من السُّور القرآنية في حدِّ ذاتها قطعة من كلام لله تعالى المنزل على قلب النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله) ، والبسملة جُزء من كلٍّ منها ، فكلٌ منها مع بسملتها لها وجود مستقل عن غيرها ومتشخّصة كنفسها ولها حيِّز من الوجود ، وبذلك تكون جزئيّاً حقيقيّاً ، لا يعقل انطباقه على كثيرين .

وعليه ، فمعنى قراءة كلِّ سورة هو التكلُّم بألفاظها النوعيَّة بقصد حكاية ذلك الكلام الشخصيّ ، ومرجعه إلى استعمال اللفظ في اللفظ الخاصّ الذي نزل به جبرائيل عليه السلام ، فيكون المستعمل فيه هو اللفظ الخاص ، فقراءة بسملة كلّ سورة هو التلفُّظ بها بقصد حكاية خصوص البسملة النازلة معها ، فلو قرأ البسملة التي قصد بها حكاية بسملة الإخلاص لا يصدق عليها قراءة جُزء سورة الجحد ، فلو بدا له أن يقرأ سورة الجحد لا يجديه ضمّ بقيَّة السُّورة في صيرورة البسملة التي قرأها بقصد الإخلاص مصداقاً لقراءة بسملة الجحد .

ولكن الإنصاف : هو عدم اشتراط تعيين السُّورة قب الشُّروع في البسملة ، لأنه إذا التفت إجمالاً إلى وجود البسملة في القرآن لقرأها في صلاته بقصد تلك الآية التي تصوّرها على سبيل الإجمال صدق عليه قرآناً من القرآن ، ولكن المقروء هو طبيعة تلك الآية الصَّادقة على كلّ من مصاديقها ، لأنَّ الكليّ الطبيعي موجود بوجود أفراده في الخارج ، وليس له وجود مستقل ، فيصدق على كلٍّ منها أنّها هي الآية التي قرأها ، ولكن لا وجه تمييزها عمَّا يشاركها في الماهية ، فيصح أن يجعلها جُزءًا من أيّ سورة شاء بانضمام الباقي إليها ، لأنَّه بعد الانضمام يصدق أنَّه قرأ سورة تامَّة ، ولكنَّ جُزءها الأوَّل الذي هو البسملة قرأه على سبيل الإجمال ، وأمَّا الباقي فقرأها تفصيلاً .

نعم ، إذا كان المأمور به سورةً خاصَّةً كما في سورة الحمد فاتحة الكتاب فلا بدّ من الإتيان بها بتمام أجزائها ، ومنها بسملتها ، فلا يصحّ الإيتان بمطلق البسملة لأنّ الواجب جُزء خاصّ وهو بسملتها ، مثلها مثل سائر آيات الفاتحة ، فلا بدّ أن يأتي بها بعنوان الفاتحة ، فلا يكفي قول {الحمد لله رب العاملين} بقصد الآية الواقعة في سورة أخرى ، ولا يقصد الجامع بينهما ، وكذا الحال في البسملة .

وأمَّا إذا كان المأمور به قراءة سورة على الإطلاق ، كما فيما نحن فيه فلا مانع من صحتها بعد فرض كون هذا العنوان مقصوداً له حال الإتيان ببسملتها ، ولا يضرّ قصد كليّ البسملة لِما عرفت أنّ الكليّ الطبيعيّ متحد مع أفراده خارجاً ، فقصده يكون قصداً للأفراد وحاكياً عنها إجمالاً .

ونظير هذا الكلام ما ذكرناه في المعنى الحرفي في مبحث علم الأصول من إمكانيَّة الوضع العام والموضوع له الخاص ، بل هو واقع ، إذ المعنى الكلي يكشف عن أفراده ومصاديقه ويحكي عنها إجمالاً ، فهو وجه لمصاديقه ، وبالتالي نستطيع من خلال تصوّره أن نتصور أفراده تصوراً إجماليّاً لا تفصيليّاً .

وعليه ، فما ذكره السَّيد الحكيم ووافقه السَّيد أبو القاسم الخوئي (رَحِمَهُمَا الله) من منع سراية حكاية الكليّ إلى فرد ، كما يظهر من قياسها بحكاية اللفظ الموضوع للمعنى الكلي ، فإنَّ حكايته عنه ليس حكايةً عن الفرد ، ولا استعمال للفظ فيه استعمالاً له في الفرد ، فإذا حكى كليَّ البسملةِ لم تكن حكايته حكاية لأفرادها ...[10] ليس بتمامّ .

 


[1] جواهر الكلام في ثوبه الجديد، الشيخ محمد حسن النجفي، ج5، ص370.
[2] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج6، ص101، أبواب القراءة في الصَّلاة، باب36، ح2، ط آل البیت.
[3] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج6، ص101، أبواب القراءة في الصَّلاة، باب69، ح1 و2، ط آل البیت.
[4] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج6، ص101، أبواب القراءة في الصَّلاة، باب69، ح1 و2، ط آل البیت.
[5] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج6، ص101، أبواب القراءة في الصَّلاة، باب69، ح4، ط آل البیت.
[6] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص173.
[7] جواهر الكلام، الشيخ محمّدحسن النّجفي، ج10، ص51.
[8] يس/السورة36، الآية20.
[9] القصص/السورة28، الآية20.
[10] مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، ج6، ص182، ط بیروت.