الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

38/06/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القراءة في الصَّلاة(35)

 

الأمر الثالث : اختلف الأعلام في تفسير الجهر والإخفات ، فقال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (أقلّ الجهر أن يسمع مَنْ قرب منه إذا كان يسمع ؛ وحدّ الإخفات إسماع نفسه إن كان يسمع ، وإلَّا تقديراً ، قال في المعتبر : وهو إجماع العلماء ، ولأنَّ ما لا يسمع لا يعدّ كلاماً ولا قراءةً ...)[1] .

وقال ابن إدريس رحمه الله في السَّرائر : (وأدنى حدّ الجهر أن تُسْمِع مَنْ على يمينك أو شمالك ، ولو علا صوته فوق ذلك لم تبطل صلاته ، وحدّ الإخفات أعلاه أن تسمَع أُذناك القراءة وليس له حدّ أدنى ، بل إن لم تسمع أذناه القراءة فلا صلاة له ، وإن سمع مَنْ على يمينه أو شماله صار جهراً ، فإذا فعله عامداً بطلت صلاته)[2] .

وقال الشَّيخ رحمه الله فيما حكي عن تبيانه : (حدّ أصحابنا الجهر فيما يجب الجهر فيه بأن يُسْمِع غيره ، والمخافتة بأن يُسْمِع نفسه ... )[3] .

وقال صاحب المدارك رحمه الله - بعد قول المحقِّق رحمه الله في الشَّرائع : وأقل الجهر أن يسمعه القريب الصَّحيح السَّمع إذا استمع ، والإخفات أن يسمع نفسه إن كان يسمع - : ( هذا الضَّابط ربّما أوهم بظاهره تصادق الجهر والإخفات في بعض الأفراد ، وهو معلوم البطلان لاختصاص الجهر ببعض الصَّلوات ، والإخفات ببعض ، وجوباً أو استحباباً ، والحقّ أنّ الجهر والإخفات حقيقتان متضادّتان يمتنع تصادقهما في شيء من الأفراد ، ولا يحتاج في كشف مدلوهما إلى شيء زائد على الحوالة على العرف)[4] .

والظَّاهر أنَّ مبنى ما ذكره صاحب المدارك رحمه الله من الاعتراض على الضّابط المذكور هو أنّه فهم من عبارة المحقِّق رحمه الله عطف الإخفات في عبارته على المضاف إليه في قولهم : (أقلّ الجهر أن يسمع القريب منه والإخفات) ، يعني أقلّ الإخفات أن يسمع نفسه ، وأكثره إسماع القريب الذي هو أقلّ الجهر ، فيتصادقان حينئذٍ .

ويؤيِّده : قوله في عبارة النافع : (وأدنى الإخفات أن يُسْمِع نفسه) ، وهو كالنصّ في أنّ للإخفات فرداً آخر أعلى من ذلك يتحقّق بإسماع الغير ، مع أنهَّ يصدق عليه أيضاً الجهر ، فيلزم أن لا يكون الجهر والإخفات متضادَّين ، وهو خلاف الحقّ .

ولكنَّ الإنصاف : أنَّ كلام المحقِّق رحمه الله وإن أوهم ما ذكره صاحب المدارك إلَّا أنَّ الظَّاهر أنَّ ما ذكره من تعريف الإخفات ليس بياناً لأقلّ مراتبه ، بل إنَّما هو بيان لمعنى حقيقة الإخفات ، وليس هو معطوفاً على المضاف إليه ، بل على المضاف ، والواو للاستئناف .

وعليه ، فالمراد من العبارة بيان معنى الإخفات ، وأنَّه عبارة عن إسماع الإنسان نفسه حقيقةً أو تقديراً ، وأمَّا ما زاد عليه فهو جهر تبطل الصَّلاة به .

ويؤيِّد هذا المعنى : ما يظهر من غير واحد من أنَّه للإخفات مراتب ، بل حدّه أن يُسْمِع نفسه ، بل عن العلَّامة رحمه الله في التذكرة دعوى الإجماع عليه .

قال : (أقلّ الجهر أن يُسْمِع غيره القريب تحقيقاً أو تقديراً ، وحدّ الإخفات أن يُسْمِع نفسه لو كان سميعاً ، بإجماع العلماء ، ولأنَّ ما لا يسمع لا يعدّ كلاماً ولا قراءةً)[5] .

وأصرح من ذلك عبارة السَّرائر المتقدِّمة ، وكذا عبارة العلَّامة رحمه الله في المنتهى ، حيث قال فيها : (أقلّ الجهر الواجب أن يُسْمِع غيره القريب ، أو يكون بحيث يسمع لو كان سامعاً ، بلا خلاف بين العلماء ، والإخفات أن يسمع نفسه أو بحيث يسمع لو كان سامعاً ، وهو وفاق لأنَّ الجهر هو الإعلان والإظهار ، وهو يتحقّق بسماع الغير القريب ، فيكتفى به والإخفات السّرّ ، وإنَّما حدّدناه بما قلناه لأنَّ ما دونه لا يسمّى كلاماً ولا قرآناً ، وما زاد عليه يسمَّى جهراً) .

أقول : إنَّ تحديد الإخفات بأن يسمع نفسه إذا كان سميعاً ، ولم يكن هناك مانع ، وأنّه لا يدخل إسماع غيره في الإخفات أصلاً ؛ ففيه ما فيه ، لأنَّه قد يفرض غيره أقرب إلى سماع اللفظ من الإنسان نفسه ، كما لو وضع أُذنه قريباً من فم المتكلم مثلاً .

ومن هنا فسَّر المحقِّق الثاني رحمه الله الجهر والإخفات بمعنى آخر ، حيث قال في شرح القواعد : (الجهر والإخفات حقيقتان متضادتان كما صرَّح به المصنِّف رحمه الله في النهاية عرفيّتان ، تصادقهما في شيء من الأفراد ، ولا يحتاج في كشف مدلولهما إلى شيء زائد على الحوالة على العرف[6] - إلى أن قال بعد ذكر تعريف المصنّف رحمه الله له بأنّ أقلّ الجهر إسماع القريب تحقيقاً أو تقديراً : - وينبغي أن يزاد فيه قيد آخر ، وهو تسميته جهراً عرفاً ، وذلك بأن يتضمن إظهار الصّوت على الوجه المعهود .

ثمَّ قال - بعد قوله : (وحدّ الإخفات إسماع نفسه تحقيقاً أو تقديراً)[7] - : (ولا بدّ من زيادة قيد آخر ، وهو تسميته مع ذلك إخفاتاً بأن يتضمن إخفاتاً ، بأن يتضمن إخفات الصّوت وهمسه ، وإلَّا لصدق هذا الحدّ على الجهر ، وليس المراد إسماع نفسه خاصَّةً ، لأنَّ بعض الإخفات قد يسمعه القريب ، ولا يخرج بذلك عن كونه إخفاتاً)[8] .

ونحوه كلام الشَّهيد الثاني رحمه الله ، حيث قال : (وأقلّ الجهر أن يسمع من قرب منه إذا كان صحيح السَّمع مع اشتمال القراءة على الصَّوت الموجب لتسميته جهراً عرفاً ، وأكثره أن لا يبلغ العلوّ المفرد ...)[9] .

قال صاحب الحدائق رحمه الله : (وظاهر كلام هذين الفاضلين - المحقّق الثاني والشَّهيد الثاني - أنَّه لا بدّ في صدق الجهر وحصوله من اشتمال الكلام على الصّوت ، وهذا هو منشأ الفرق بين الجهر والإخفات ، فإن اشتمل الكلام على الصّوت سمِّي جهراً ، أسمع قريباً أو لم يسمع ، وإن لم يشتمل عليه سمّي إخفاتاً كذلك ، وبنحو ما ذكره الفاضلان المذكوران صرّح المحقّق الأردبيلي (قدس سره) ، والظَّاهر أنَّه قول كافَّة من تأخَّر عنهما )[10] .

أقول : مقتضى الإنصاف في تفسير الجهر والإخفات هو الرّجوع إلى العرف في تفسيرهما ، حيث لم يرد فيهما تفسير شرعي .

 


[1] الذكرى، الشهيد الأول، ص190.
[2] كتاب السرائر، أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي، ج1، ص223.
[3] تفسير التبيان، الشيخ الطوسي، ج6، ص534.
[4] مدارك الأحكام، السيد محمّدالموسوي العاملي، ج3، ص358.
[5] تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ج3، ص153، ط آل البيت.
[6] جامع المقاصد في شرح القواعد، المحقق الثاني (المحقق الكركي)، ج2، ص260.
[7] الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، الشيخ يوسف البحراني، ج8، ص139.
[8] مفتاح الکرامة في شرح قواعد العلامة(ط - دار الاحیاء التراث)، سید جواد الحسینی العاملی، ج2، ص366.
[9] الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، الشهيد الثاني، ج1، ص600.
[10] الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، الشيخ يوسف البحراني، ج8، ص139.