الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
38/03/22
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع :القِيام في الصَّلاة (25)
ثمَّ إنَّ التعبير في صحيح زرارة بـ (الإمام) لا يقتضي النفي عن غيره ، بل صحيحة أبي بصير المتقدِّمة ظاهرة جدّاً في إرادة الإمام والمأموم ، فما نسبه الفاضل الأصبهاني (رحمه الله) في كشف اللثام عن بعض الأعلام من أنَّ ذلك وظيفة الإمام خاصَّة ضعيفة ، بل لا يظنّ منهم إرادة ذلك ، لأنّ عبائرهم المحكيّة التي ستظهر منها هذا القول ليست إلَّا كمتن صحيحة زرارة وموثّقة سماعة .
والذي قد عرفت أنَّ المراد منهما ما هو المشهور من أنَّ ذلك وظيفة الإمام والمأموم .
والخلاصة : أنَّ احتمال التفصيل أو القول به في غاية الضعف ، بل يمكن دعوى تسالم الأصحاب على خلافه ، لأنَّه لم يعهد من أحد منهم تحرير نزاع فيه .
ومما ذكرنا أيضاً يتضح لك عدم صحّة ما حكي عن أبي الصَّلاح وابن أبي عقيل (رحمهما الله) من أنَّهما قبل الرّكوع في كلٍّ من الرّكعتين ، إذ لا مستند لهما إلَّا إطلاق رواية معاوية بن عمَّار المتقدِّمة (ما أعرف قنوتاً إلَّا قبل الرّكوع)[1] .
وفيه أوَّلاً : أنَّها ضعيفة السَّند بجهالة محمَّد بن إسماعيل النيشابوري البندقي .
وثانياً : على فرض تسليم الإطلاق ، فإنَّها تقيَّد بالرّوايات السّابقة ، ولعلّه لبُعد إعراضهما عن تلك الرّوايات المتقدّمة تأوَّل بعض متأخِّري المتأخِّرين المنقول من كلٍّ منهما في المختلف ، وأرجعه إلى القول المشهور .
ويؤيِّده : أنَّه في المنتهى نسب إلى ابن أبي عقيل (رحمه الله) موافقة المشهور .
ثمَّ إنَّه بقي عندنا ما حكي عن الشَّيخ المفيد (رحمه الله) ، ووافقه العلَّامة (رحمه الله) في المختلف ، وصاحب المدارك (رحمه الله) ، من أنَّ القنوت واحد ، ومحلّه قبل الرّكوع من الرِّكعة الأولى .
وقد يستدلّ لهم بجملة من الرِّوايات :
منها : صحيحة معاوية بن عمَّار (قال : سمعتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) يقول في قنوت الجمعة : إذا كان إماماً قنَتَ في الرِّكعة الأولى ، وإن كان يصلِّي أربعاً ففي الرِّكعة الثانية قبل الرّكوع) [2] .
ومنها : صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (أنَّ القنوت يوم الجمعة في الرّكعة الأولى) [3] .
ومنها : رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (قال : القنوت قنوت يوم الجمعة في الرّكعة الأُولى بعد القراءة) [4] ، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال .
ومنها : رواية عمر بن حنظلة (قال : قلتُ لأبي عبد الله (عليه السَّلام) : القنوت يوم الجمعة ؟ فقال : أنت رسولي إليهم في هذا ، إذا صلّيتم في جماعةٍ ففي الرِّكعة الأُولى ، وإذا صلّيتم وحدانا ففي الرّكعة الثانية) [5] ، وهي ضعيفة أيضاً لعدم وثاقة عمر بن حنظلة .
وفيه : أنَّ هذه الرّوايات لا تنافي القول بثبوت القنوت الثاني لأنّ هذه الرّوايات مطلقة في كفاية القنوت الواحد .
ومقتضى الجمع العرفي تقييد هذه الرّوايات بما تقدَّم من الرّوايات المصرّحة بوجود قنوت آخر في الرّكعة الثانية بعد الركوع .
ولعلّ الاقتصار في هذه الرّوايات على بيان القنوت الأوَّل مشعر بأنّه هو الذي اختصّت به الجمعة من بين الصّلوات ، وبأنّه هو الذي ينبغي الاهتمام بذكره لِعدم معروفيَّة مشروعيَّته في غيرها ، بخلاف القنوت في الثانية بعد الرّكوع فإنَّه قد يشرّع في النسيان ، بل ذكر المحقّق (رحمه الله) في المعتبر أنّه يجوَّز اختياراً .
قوله : (وأوجبه ابن بابويه في كلِّ صلاة ، والحسن في الجهريَّة)[6]
قد عرفت عدم صحَّة كِلا القولين عند الكلام عن القنوت قبل الرّكوع في كلِّ ثانية ، فراجع .
قوله : (ويتأكَّد في الوتر والجهريَّة)
كما في جملة من الرّوايات :
منها : صحيحة سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرّضا (عليه السَّلام) (قال : سألته عن القنوت ، هل يقنت في الصّلوات كلِّها ، أم فيما يجهر فيه بالقراءة ؟ قال : ليس القنوت إلَّا في الغداة والجمعة والوتر والمغرب) [7] .
ومنها : صحيحة وهب بن عبد ربّه المتقدِّمة عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (قال : القنوت في الجمعة والعشاء والعتمة والوتر والغداة ، فمَنْ ترك القنوت رغبةً عنه فلا صلاة له) [8] ، وكذا غيرها ممَّا تقدَّم .
قوله : (والدُّعاء فيه بكلمات الفرج)
قال المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى : (أفضل ما يقال فيه كلمات الفرج ، قال ابن إدريس : ورُوي أنَّها أفضله ، وقد ذكرها الأصحاب ، وفي المبسوط والمصباح : هي أفضل ... )[9] ، وفي الحدائق : (ذكر الشَّيخ وأكثر الأصحاب أنَّ أفضل ما يُقال في القنوت كلمات الفرج ... )[10] .
واعترف أغلب الأعلام بأنَّهم لم يقفوا في ذلك على رواية تدلّ عليه إلَّا في قنوت الجماعة ومفردة الوتر فقط .
والإنصاف : أنَّ الأمر كذلك ، إذ لا يوجد ما يدلّ عليه هنا إلَّا في قنوت الجمعة ومفردة الوتر ، ومرسلة السَّيد المرتضى وابن إدريس (رحمهما الله) .
ومع ذلك لم تروَ كلمات الفرج بهذا العنوان هنا ، وإنَّما الوارد واقعها ، أي : لا إله إلا الله الحليم الكريم ... .
نعم ، ورد بهذا العنوان في مبحث تلقين الميت .
وأمَّا ما ورد هنا - أي في مبحث القنوت - فمنها مرسلة السَّيد وابن إدريس (رحمهما الله) (رُوي أنَّها - أي كلمات الفرج - أفضله) [11] ، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال .
ومنها : مرسلة الفقيه (قال : وروى معروف بن خربوذ عن أحدهما - يعني أبا جعفر وأبا عبد الله (عليه السَّلام) - قال : قل في قنوت الوتر : لا إله إلا الله الحليم الكريم ، لا إله إلَّا الله العلّي العظيم ، سبحان الله ربّ السّماوات السّبع ، ورب الأرضين السَّبع ، وما فيهن وما بينهنّ ، وربّ العرش العظيم ، اللَّهمَّ أنت الله نور السَّماوات والأرض ... ) [12] [13] ، وهي طويلة ولا يوجد فيها (والحمد لله رب العالمين) ؛ وهي ضعيفة بالإرسال أيضاً .
ومنها : ما في الفِقه الرضوي (وقل في قنوتك - بعد فراغك من القراءة قبل الرّكوع - : اللَّهمَّ أنت الله لا إله إلَّا أنت الحليم الكريم ، لا إله إلَّا أنت العليّ العظيم ، سبحانك ربّ السّماوات السّبع ، وربّ الأرضين السّبع ، وما فيهن وما بينهن ، وربّ العرش العظيم ، يا الله ، ليس كمثله شيء ، صلّ على محمّد وآل محمّد ، واغفر لي ولوالديّ ، ولجميع المؤمنين والمؤمنات ، إنّك على كلّ شيءٍ قدير ، ثمّ اركع)[14] .
وفيه - ما ذكرناه في أكثر من مناسبة - : أنَّ فقه الرِّضا لم يثبت كونه روايةً ، إلَّا ما كان بعنوان (روي) ، وذكرنا أنَّ الأقرب أنَّه فتاوى لابن بابويه (رحمه الله) .
وعليه ، فلا يصحّ الاستدلال به .
ومنها : رواية أبي بصير المتقدِّمة عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (قال : القنوت (قنوت) يوم الجمعة في الرّكعة الأولى بعد القراءة ، يقول في القنوت : لا إله إلا الله الحليم الكريم ، لا إله إلَّا الله العليّ العظيم ، لا إله إلَّا الله رب السّماوات السّبع ، ورب الأرضين السبع ، وما فيهن وما بينهن ، وربّ العرش العظيم ، والحمد الله رب العالمين ، صلّ على محمَّد وآله كما هديتنا به ، اللَّهمَّ صلّ على محمّد وآله كما أكرمتنا به ، اللَّهمَّ اجعلنا ممَّن اخترته لدينك وخلقته لجنتك ، اللَّهمَّ لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ، إنَّك أنت الوهّاب) [15] ، وهي ضعيفة بالإرسال أيضاً .
وعليه ، فاستحباب القنوت بكلمات الفرج إمَّا مبنيّ على التسامح في أدلّة السُّنن - ولم تثبت القاعدة عندنا - أو على أنَّ هذه الكلمات من مصاديق الذِّكر والثناء على الله تعالى .
والإنصاف : أنَّ هناك تسالماً عليها بين الأعلام .
ثمَّ إنَّه قد أشرنا سابقاً أنَّ كلمات الفرج الثابتة في باب التلقين بدليل معتبر ، لا يوجد فيها شيء من الدُّعاء .
ولا يخفى أنَّ كلمات الفرج مختلفة زيادة ونقصاناً وتقديماً وتأخيراً ، كما أشرنا إليه في مبحث تلقين الميت .
وأفضل ما يقال في كلمات الفرج ما ورد في حسنة زرارة عن أبي جعفر (عليه السَّلام) (قال : إذا أدركت الرّجل عند النزع فلقنه كلمات الفرج : لا إله إلَّا الله الحليم الكريم ، لا إله إلَّا الله العليّ العظيم ، سبحان الله ربّ السَّماوات السَّبع ، وربّ الأرضين السّبع ، وما فيهنّ وما بينهنّ ، وربّ العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين) [16] .
وقد ورد في حسنة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل على رجل من بني هاشم وهو يقضي ، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : قل : لا إله إلَّا الله العليّ العظيم ، لا إله إلَّا الله الحليم الكريم ، سبحان الله ربّ السّماوات السّبع ، وربّ الأرضين السّبع ، وما بينهن وما تحتهن ، وربّ العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، فقالها ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : الحمد لله الذي استنقذه من النّار) [17] ، ولكنَّ فيها تقديم (العلي العظيم) على (الحليم الكريم) ، كما أنَّ فيها (وما تحتهن( بعد (وما بينهنّ) ، مع عدم وجود (وما فيهنّ) .
ورواها الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) مرسلة مع زيادة (وسلام على المرسلين) قبل التحميد ، ثمَّ قال الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) : (وهذه الكلمات هي كلمات الفرج)