الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
38/03/21
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع :القِيام في الصَّلاة (24)
ومنها : موثّقة سماعة (قال : سألتُه عن القنوت في أيّ صلاة هو ؟ فقال : كلّ شيءٍ يجهر فيه بالقراءة فيه قنوت ، والقنوت قبل الرّكوع وبعد القراءة)[1] ، ومضمرات سماعة مقبولة كما عرفت .
ومنها : رواية معاوية عبن عمَّار عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (قال : ما أعرف قنوتاً إلَّا قبل الرّكوع)[2] ، وقد عبَّر عنها أغلب الأعلام بالصّحيحة .
ولكنَّ الإنصاف : أنَّها ضعيفة لأنَّ محمَّد بن إسماعيل الذي يروي عنه الكليني (رحمه الله) ليس هو ابن بزيع ، بل الظَّاهر أنَّه البندقي النيشابوري المجهول .
ومنها : مرسلة الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول عن الرّضا (عليه السَّلام) - في كتابه إلى المأمون - (قال : كلّ القنوت قبل الرّكوع ، وبعد القراءة)[3] ، وهي ضعيفة بالإرسال .
ويدل على ما ذكره المحقِّق (رحمه الله) في المعتبر رواية إسماعيل الجعفي ومعمَّر بن يحيى عن أبي جعفر (عليه السَّلام) (قال : القنوت قبل الرّكوع ، فإن شئت فبعده)[4] .
ولكنَّها ضعيفة بجهالة القاسم بن محمَّد الجوهري ، ووجوده في كامل الزيارات غير نافع ، لأنَّه ليس من مشايخه المباشرين .
ومع قطع النظر عن ضعف السّند فمقتضى الجمع بينها وبين الرّوايات المتقدّمة حمل الروايات المتقدّمة على الأفضليّة كما ذهب إليه المحقّق (رحمه الله) .
ومن هنا قال المحقّق الهمداني (رحمه الله) : (فالإنصاف أنَّ الالتزام بشرعيَّة الإتيان به بعد الرّكوع عند تركه قبله ، ولو عمداً أشبه بالقواعد ، وأنسبها بالمسامحة في أدلة السّنن ... ) .
وقد حمل الشَّيخ رواية إسماعيل الجعفي ومعمَّر بن يحيى على حال القضاء أو التقيَّة ، وكذا حملها المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى : (قال المحقِّق في المعتبر : ليس في الأخبار ما يدلّ على أنَّ الإتيان به بعد الرّكوع قضاء)[5] .
وفيه : ما عرفته من أنَّ الجمع العرفي لولا ضعف رواية معمَّر ين يحيى وإسماعيل الجفعي حمل الرّوايات الدَّالة على أنَّه قبل الرّكوع على الأفضليّة .
بقي الكلام في رواية معاوية بن عمَّار ، قال السَّيد محسن الحكيم (رحمه الله) في المستمسك : (نعم ، في صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) : ما أعرف قنوتاً إلَّا قبل الرّكوع ، والجمع بالحمل على الأفضليَّة بعيد جدّاً ... )[6] ، أي الجمع بينه وبين رواية إسماعيل ومعمّر بن يحيى .
وذكر المحقِّق الهمداني (رحمه الله) أنَّه (يحتمل قويّاً أن يكون - أي رواية معاوية - جارياً مجرى التعبير في مقام الإخبار عمَّا استقرّ عليه سيرته في مقام عمله ، فإنَّه كثيراً ما يُقال في العرف لا أعرف إلَّا هذا ، بمعنى لا أعمل إلَّا هذا ... )[7] .
وفيه : أنَّه خلاف الظَّاهر جدّاً ، بل ظاهره إرادة نفي حقيقة القنوت إلَّا قبل الرّكوع ، فيكون كنايةً عن عدم مشروعيّته إلَّا قبل الرّكوع .
والذي يهوِّن الخطب أنَّ رواية معاوية بن عمار ضعيفة ، وليست بصحيحة ، كما عرفت .
والخلاصة : أنَّ ما ذهب إليه المشهور من أنَّ محله قبل الرّكوع هو الأصحّ ، والله العالم .
قوله : (وفي مفردة الوتر قنوت قبله ، وآخر بعده)[8]
ذكر جماعة من الأعلام - منهم المصنِّف (رحمه الله) هنا ، والشّهيد الثاني (رحمه الله) في الروضة ، والمحقّق (رحمه الله) في المعتبر ، والعلَّامة (رحمه الله) في التذكرة ، وغيرهم أيضاً - أنَّ لمفردة الوتر قنوتاً آخر بعد الرّكوع ، فلها قنوتان حينئذٍ ، أحدهما قبل الرّكوع ، والآخر بعده .
وقد يستدلّ لهم بمرسلة أحمد بن عبد العزيز : (قد حدثني بعض أصحابنا ، قال : كان أبو الحسن الأوَّل (عليه السَّلام) إذا رفع رأسه من آخر ركعة قال : هذا مَقامُ مَنْ حَسَناتُهُ نِعْمَةٌ مِنْكَ ، وَشُكْرُهُ ضَعيفٌ ، وَذَنْبُهُ عَظيمٌ ، وَلَيْسَ له إِلاّ رِفْقُكَ وَرَحْمَتُكَ ، فَإنَّكَ قُلْتَ في كِتابِكَ المُنَزَّلِ عَلى نَبيّكَ المُرْسَلِ صَلّى الله عَلَيهِ وآلِهِ : {كانوا قَليلاً مِنَ اللَّيْلِ مايَهْجَعونَ وَبِالأسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرونَ }[9] طالَ هُجوعي ، وَقَلَّ قيامي ، وَهذا السَّحَرُ وَأنا اسْتَغْفِرُكَ لِذُنوبِي اسْتِغْفارَ مَنْ لا يَجِدُ لِنَفْسِهِ ضُراً وَلا نَفْعا وَلا مَوْتا وَلا حَياةً وَلانُشوراً ، ثم يخر ساجدا) .
وفيها أوَّلاً : أنَّها ضعيفة بالإرسال ، وبسهل بن زياد ، وبجهالة أحمد بن عبد العزيز .
وثانياً : أنَّ استحباب الدُّعاء المذكور لا يقتضي استحباب قنوت آخر ، إذ ليس كلّ دعاءٍ قنوتاً .
وبالجملة ، لا يطلق اسم القنوت شرعاً على مطلق الدّعاء ، وإلَّا لزم استحباب القنوت في الرّكوع والسُّجود ، وفيما بين السَّجدتين ، وبعد الرّكوع ، إذ الدّعاء مستحبّ في هذه الموارد ؛ بل القنوت بحسب الظاهر اسم للعمل المخصوص المعروف عند المتشرّعة المعتبر فيه رفع اليدين لكونه من مقوِّمات مفهومه .
والإنصاف : أنَّ القائلين باستحباب القنوت الثاني بعد الرُّكوع إنْ أرادوا به هذا الدُعاء المستحبّ فلا إشكال في ذلك ، ولا مشاحّة حينئذٍ في تسميته قنوتاً ، لأنَّه مجرد اصطلاح .
وإن أرادوا استحبابه على حدِّ استحبابه قبل الرّكوع بأنْ يُؤتى به مع رفع اليدين حاله قاصداً به التوظيف فهم ليس على حقٍّ ، لِضعف الرِّواية المذكورة ، والله العالم .
قوله : (وفي الجمعة قنوتان في الركعة الأولى قبله وفي الثانية بعده)
المعروف أنَّ في صلاة الجمعة - التي هي ركعتان مع الخطبتين - قنوتين :
أحدهما : في الرّكعة الأُولى قبل الرّكوع .
والثاني : في الثانية بعد الرّكوع .
وفي المدارك : (هذا هو المشهور بين الأصحاب ... ) ، وحُكي عن أبي الصَّلاح وابن أبي عقيل : أنَّهما قبل الرّكوع في كلٍّ من الرِّكعتين ، وذهب بعض الأعلام إلى أنَّ في صلاة الجمعة - التي هي ركعتان - قنوتاً واحداً ، حُكي ذلك عن الشَّيخ المفيد والشَّيخ الصدوق وابن إدريس (رحمهم الله) .
ولكنَّ الشَّيخ المفيد (رحمه الله) جعل محلّه قبل الرّكوع في الرّكعة الأُولى ، وأمّا الشَّيخ الصَّدوق وابن إدريس (رحمهما الله) فجعلا محلّه الرّكعة الثانية قبل الرّكوع .
إذا عرفت ذلك فنقول : قدِ استُدلّ للمشهور بعدَّة من الرّوايات :
منها : صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (قال : سأله بعض أصحابنا - وأنا عنده - عن القنوت في الجمعة ، فقال له : في الرّكعة الثانية ، فقال له : قد حدَّثنا به بعض أصحابنا أنَّك قلتَ له : في الرِّكعة الأُولى ، فقال : في الأخيرة ، وكان عنده ناس كثير ، فلما رأى غفلة منهم ، قال : يا أبا محمَّد ! في الأولى والأخيرة ، فقال له أبو بصير بعد ذلك : قبل الرّكوع أو بعده ؟ فقال له أبو عبد الله (عليه السَّلام) : كلّ قنوت قبل الرّكوع إلّا في الجمعة ، إنَّ الرِّكعة الأُولى القنوت فيها قبل الركوع ، والأخيرة بعد الركوع)[10] .
ومنها : موثَّقة سماعة (قال : سألتُه عن القنوت في الجمعة ، فقال : أمَّا الإمام فعليه القنوت في الرّكعة الأولى بعدما يفرغ من القراءة قبل أن يركع ، وفي الثانية بعدما يرفع رأسه من الرُّكوع قبل السُّجود - إلى أن قال : - ومَنْ شاء قنت في الرِّكعة الثانية قبل أن يركع ، وإن شاء لم يقنت ، وذلك إذا صلَّى وحده)[11] .
ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السَّلام) - في حديث - (قال : قال : على الإمام فيها - أي في الجمعة - قنوتان ، قنوت في الرّكعة الأولى قبل الرّكوع ، وفي الركعة الثانية بعد الرّكوع ، ومن صلّاها وحده فعليه قنوت واحد في الرّكعة الأولى قبل الرّكوع)[12] .
وهذه الرّوايات كما تدلّ على قول المشهور تدلّ أيضاً على بطلان قول الشّيخ الصّدوق وابن إدريس (رحمهما الله) ، قال الشّيخ الصدوق (رحمه الله) في الفقيه - بعد أنْ ذكر صحيح زرارة - : (وتفرّد بهذه الرّواية حريز عن زرارة ، والذي استعمله وأفتى به ومضى عليه مشايخي رحمة الله عليهم هو أنّ القنوت في جميع الصّلوات في الجمعة وغيرها في الرّكعة الثانية بعد القراءة قبل الرّكوع ... )[13] .
وقال ابن إدريس (رحمه الله) في السّرائر : (إنَّ الذي يقتضيه أصول مذهبنا وإجماعنا أن لا يكون في الصَّلاة إلَّا قنوت واحد أية صلاة كانت ، فلا يرجع عن ذلك بأخبار الآحاد ... ) .
وجه القول بعدم صحّة ما ذهبا إليه : أنَّه يلزم على قولهما طرح جميع الرّوايات المتقدّمة ، والرّوايات التي لم نذكرها ، وهي مستفيضة جدّاً مع عدم الموجب لطرحها ، بل لو لم يوجد عندنا إلّا صحيحة أبي بصير أو صحيحة زرارة لتعيَّن العمل بهما ، إذ لا معارض لهما إلّا إطلاقات أو عمومات تقيد أو تخصّص بها .
وأمَّا ما في ذَيْل صحيحة زرارة (ومن صلَّاها وحده فعليه قنوت واحد في الرِّكعة الأُولى قبل الرِّكوع) ، فيجب ردّ علمه إلى أهله ، إذ لا عامل به من أحد على الإطلاق .
أضف إلى ذلك : أنَّه معارض بغيره من النصوص الكثيرة .
هذا ، ويظهر من الأعلام أنَّه لا فرق فيما ذكرناه بين الإمام والمأموم .
وأمَّا ما تُوهِم صحيحة زرارة ، وكذا موثَّقة سماعة ، من كون ذلك - أي القنوتين - مخصوصاً بالإمام دون غيره من المؤتمين به ، ففي غير محلّه قطعاً ، وذلك لأنّ المأموم يتبع الإمام في قنوت غير الجمعة فضلاً عن صلاة الجمعة التي من شرائطها التبعيَّة ، بل يتبعه في غير القنوت من الأفعال والأقوال ، فالمراد بثبوت القنوت على إمام الجمعة في مقابل من عداه ممن يصلّي أربعاً لا المؤتمّين به .