الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

38/03/14

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع :القِيام في الصَّلاة (20)

قوله : (وأن لا يقوم متكاسلاً ولا متناعساً ولا مستعجلاً ، وأن يكون على سكينة ووقار ، وأن يتخشّع ، وينظر موضع سجوده ، وأن يقيم نحوه ، ويجعل بين رجليه قدر ثلاث أصابع إلى شبر ، وأن لا يراوح بين رجليه في الاعتماد ، وأن يستقبل بإهامه القبلة ، وأن يترك التقدّم والتأخّر ، وأن لا يرفع بصره إلى السّماء ، وأن يقبل بقلبه على الله ، ويقوم قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل)[1]

ما ذكره المصنِّف (رحمه الله) مستفاد من جملة من الرِّوايات :

منها : صحيحة حمَّاد بن عيسى (قَالَ:قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السَّلام) يَوْماً : يَا حَمَّادُ ! تُحْسِنُ أَنْ تُصَلِّيَ ؟ قَالَ : فَقُلْتُ : يَا سَيِّدِي ! أَنَا أَحْفَظُ كِتَابَ حَرِيزٍ فِي الصَّلَاةِ ، َقَالَ : فقال (عليه السَّلام) : لَا عَلَيْكَ ، يَا حَمَّادُ ! قُمْ فَصَلِّ ، قَالَ : فَقُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَوَجِّهاً إِلَى الْقِبْلَةِ ، فَاسْتَفْتَحْتُ الصَّلَاةَ ، ورَكَعْتُ وَسَجَدْتُ ، فَقَالَ (عليه السَّلام) : يَا حَمَّادُ ! لَا تُحْسِنُ أَنْ تُصَلِّيَ ، مَا أَقْبَحَ بِالرَّجُلِ مِنْكُمْ ، يَأْتِي عَلَيْهِ سِتُّونَ سَنَةً ، أَوْ سَبْعُونَ سَنَةً ، فما يُقِيمُ صَلَاةً وَاحِدَةً بِحُدُودِهَا تَامَّةً ! ، قَالَ حَمَّادٌ : فَأَصَابَنِي فِي نَفْسِي الذُّلُّ ، فَقُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ! فَعَلِّمْنِي الصَّلَاةَ ، فَقَامَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السَّلام) مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ مُنْتَصِباً ، فَأَرْسَلَ يَدَيْهِ‌ جَمِيعاً عَلَى فَخِذَيْهِ قَدْ ضَمَّ أَصَابِعَهُ ، وَقَرَّبَ بَيْنَ قَدَمَيْهِ حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مُنْفَرِجَاتٍ ، وَاسْتَقْبَلَ بِأَصَابِعِ رِجْلَيْهِ (جَمِيعاً) الْقِبْلَةَ لَمْ يُحَرِّفْهَا عَنِ الْقِبْلَةِ بخشوع واستكانة ... )[2] ، إلى آخر الصحيحة المشتملة على كثير من آداب الصَّلاة ومستحبّاتها .

ثمَّ لا يخفى عليك أنَّ إنكار الصَّادق (عليه السَّلام) على حمَّاد في صلاته وتعليمه إنَّما هو بالنسبة إلى سنن الصَّلاة وآدابها ، لا بالنسبة إلى واجباتها ، وإلَّا لأمره بقضاء ما مضى من صلاته .

ويؤيِّد ما ذكرناه : ما قاله المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى : (قلت : الظَّاهر أنَّ صلاة حماد كانت مسقطةً للقضاء ، وإلَّا لأمره بقضائها ، ولكنَّه عدل به إلى الصَّلاة التامَّة ، كما قال ، فلا يقيم صلاةً واحدةً بحدودها تامَّة)[3] .

ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السَّلام) (قال : إذا قمتَ في الصَّلاةِ فلا تلصقْ قدمَك بالأخرى ، دعْ بينهما فصلاً إصبعاً أقلّ من ذلك إلى شبر أكثره ، وأسدل منكبيك ، وأرسل يديك ، ولا تشبّك أصابعك ، وليكونا على فخذيك قبالة ركبتيك ، وَلْيكن نظرك إلى موضع سجودك ، فإذا ركعت فصفّ في ركوعك بين قدميك تجعل بينهما قدر شبر ، وتمكّن راحتيك من ركبتيك - إلى أن قال : - وَلْيكن نظرك إلى ما بين قدميك ... ) [4] ، إلى آخر الصَّحيحة المشتملة على كثير من الآداب والمستحبّات ، واللافت للنظر في هاتين الصّحيحتين أنّه في صحيحة حمّاد بن عيسى ورد فيها في الرّكوع : (وغمّض عينيه (عليه السَّلام)) ، وفي صحيحة زرارة قال : (وَلْيكن في الرّكوع وَلْيكن نظرك إلى ما بين قدميك) .

وأجاب المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى عن ذلك بقوله : (و (غمّض عينيه) لا ينافيه ما اشتهر بين الأصحاب من استحباب نظره إلى ما بين قدميه كما دل عليه حديث زرارة ، لأنَّ النَّاظر إلى ما بين قدميه تَقْرب صورته من صورة المغمّض ، والشَّيخ قال في النهاية : وغمّض عينيك ، فإنْ لم تفعل فَلْيكن نظرك إلى ما بين رجليك ، فأراد بالتغميض معناه الحقيقي ... ) ، ولا بأس بما ذكره المصنّف (رحمه الله) من أنَّ المراد التغميض المجازي لا الحقيقي ، جمعاً بين الأخبار .

وممَّا يدلّ على استحباب الإقبال بالقلب على الله صحيحة زرارة الثانية عن أبي جعفر (عليه السَّلام) (قال : إذا قمتَ إلى الصَّلاة فعليك بالإقبال على صلاتك ، فإنَّ لك منها ما أقبلت عليه ، ولا تعبث فيها بيديك ولا برأسك ولا بلحيتك ، ولا تحدِّث نفسك - إلى أن قال : -ولا تقم إلى الصَّلاة متكاسلاً ولا متناعساً ولا متثاقلاً ، فإنَّها من خلال النفاق ، فإنَّ الله سبحانه نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصَّلاة وهم سكارى ، يعني سكر النوم ، وقال للمنافقين : ﴿ وإذا قاموا إلى الصَّلاة قاموا كسالى يراؤون النَّاس ولا يذكرون الله إلا قليلاً ﴾[5] ) [6] .

ويؤيِّد ما ذكره المصنِّف (رحمه الله) هنا : ما هو مذكور في الفِقه الرَّضوي ، قال : (إذا أردت أن تقوم إلى الصَّلاة ، فلا تقم إليها متكاسلاً ولا متناعساً ولا مستعجلاً ولا متلاهياً ، ولكن تأتيها على السكون والوقار والتؤدّة ، وعليك بالخشوع والخضوع ، متواضعاً لله (عزوجل) متخاشعاً ، عليك خشية ، وسيّما الخوف ، راجياً خائفاً بالطمأنينة على الوجل والحذر ، فقف بين يديه كالعبد الآبق المذنب بين يدي مولاه ، فصفّ قدميك ، وانصب نفسك ، ولا تلتفت يميناً وشمالاً ، وتحسب أنَّك تراه ، فإن لم يكن تراه فإنَّه يراك ، ولا تعبث بلحيتك ، ولا بشيء من جوارحك ، ولا تفرقع أصابعك ، ولا تحكّ بدنك ، ولا تولع بأنفك ، ولا بثوبك ، ولا تصلّ وأنت متلثّم ، ولا يجوز للنّساء الصّلاة وهنّ متنقبّات ، ويكون بصرك في موضع سجودك ما دمت قائماً ، وأظهر عليك الجزع والهلع والخوف ، وارغب مع ذلك إلى الله (عزوجل) ، ولا تتكئ مرةً على رجلك ومرةً على الأخرى ... ) [7] [8] ، وأسنده المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى إلى الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) .

وقد ذكرنا في أكثر من مناسبة أنَّ كتاب الفِقه الرَّضوي لم يثبت أنَّه للإمام (عليه السَّلام) ، بل لعلّ الثابت أنّه لوالد الشّيخ الصّدوق (رحمه الله) ، إلّا ما كان فيه بعنوان (رُوي) ، فتكون روايةً مرسلةً .

ويظهر من رواية ثالثة لزرارة عدم استحباب بعضها للمرأة ، قال في الوسائل : (وبهذه الأسانيد عن حمّاد بن عيسى عن زرارة ، قال : إذا قامت المرأة في الصّلاة جمعت بين قدميها ، ولا تفرج بينهما ، وتضمّ يديها إلى صدرها لمكان ثدييها ، فإذا ركعت وضعت يديها فوق ركبتيها على فخذيها لئلّا تطأطأ كثيراً ، فترتفع عجيزتها ، فإذا جلست فعلى إليتيها ، ليس كما يجلس الرّجل ، وإذا سقطت للسّجود بدأت بالقعود ، وبالرّكبتين قبل اليدين ... ) [9] .

وهذه الرّواية بطريق الكليني والشَّيخ موقوفة على زرارة ، ولكنَّ الشيخ الصَّدوق (رحمه الله) في العِلل أسندها إلى أبي جعفر (عليه السَّلام) ، فتكون صحيحة ، والله العالم بحقائق أحكامه .


[1] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ص170.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص459، أبواب أفعال الصلاة، باب1، ح1، ط آل البیت.
[3] ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهید الاول، ج3، ص281.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص461، أبواب أفعال الصلاة، باب1، ح3، ط آل البیت.
[5] النساء/السورة4، الآية142.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص461، أبواب أفعال الصلاة، باب1، ح5، ط آل البیت.
[7] الفقه الرضوي، ص7.
[8] فقه الرضا، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ص101.
[9] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص463، أبواب أفعال الصلاة، باب1، ح4، ط آل البیت.