الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
38/02/29
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع :القِيام في الصَّلاة (12)
ثمَّ إنَّ الكلام في دلالة هذه الموثَّقة على نفي المشروعيّة ، أو نفي الالتزام ، أو غيرهما ، هو الكلام في موثَّقة أبي بصير المتقدِّمة ، فلا حاجة للإعادة .
والنتيجة إلى هنا : أنَّ الأقوى إجزاء الوقوف على الواحدة ، عملاً بإطلاق أدلَّة القيام ، والله العالم بحقائق أحكامه .
قوله : (الرابع : لا يجوز تباعد الرجلين بما يخرج عن حدِّ القيام)[1]
المعروف بين الأعلام أنَّه لا يجوز تباعد ما بين الرجلين بما يخرج عن حدِّ القيام ، وهو ما يسمَّى في الاصطلاح بالتفريج الفاحش الذي يخلّ بصدق القيام عرفاً ، وهذه المسألة واضحة ، إذ التفريج الفاحش مخالف لِمَا دلَّ على وجوب القيام .
وأمَّا التفريج غير الفاحش ، والذي لا يضرّ بصدق القيام عرفاً فالمشهور بينهم جوازه لصدق القيام معه ، لكن ذهب الشَّيخ المفيد(رحمه الله)والشَّيخ الصدوق(رحمه الله)إلى عدم التباعد بين الرجلين بأزيد من شبر ، ولعلَّهما استندا في ذلك إلى صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السَّلام) (قال : إذا قمت إلى الصَّلاة فلا تلصق قدمك بالأخرى ، ودع بينهما فصلاً إصبعاً أقلَّ ذلك إلى شبر أكثر ... )[2] .
ولكنَّ الظَّاهر أنَّ التحديد بالشبر إنَّما هو من باب السُّنن والآداب ، لا سيَّما وأنَّ الصَّحيحة مشتملة على عدَّة من الآداب ، كقوله (عليه السَّلام) فيها : (وأسدل منكبيك ، وأرسل يديك ، ولا تشبك أصابعك ، وليكونا على فخذيك قبالة ركبتيك ، ولكنَّ نظرك إلى موضع سجودك ... )[3] .
ولو كان التحديد بالشبر واجباً لكان ذلك واضحاً بين الأعلام المتقدِّمين والمتأخِّرين ، بينما المشهور بينهم عدم الوجوب ، بل لم ينسب الوجوب إلَّا إلى هذين العلمين ، ولعلَّهما أرادا الاستحباب .
ثمَّ إنَّه لا منافاة بين هذه الصَّحيحة وبين صحيحة حمَّاد بن عيسى ، حيث ورد فيها : (وقرب بين قدميه حتَّى كان بينهما قدر ثلاث أصابع منفرجات ... ) [4] .
وجه توهم المنافاة أنَّ المشهور بين الأعلام هو استحباب أن يكون بينهما ثلاث أصابع منفرجات إلى شبر ، وصحيحة زرارة المتقدِّمة تقول : (ودع بينهما فصلاً إصبعاً أقلّ ذلك إلى شبر أكثره ... )[5] ، ولكن لا منافاة بينهما ، إذ يحمل الفصل بالأصبع على الأفضليَّة يتلوه في الفضل ثلاث أصابع .
وأمَّا جواب الشَّيخ البهائي(رحمه الله)في الحبل المتين : (بأنَّه لعلّ المراد به طول الإصبع لا عرضه ، فيطابق التحديد بثلاثة أصابع منفرجات المذكورة في صحيحة حمَّاد ، فهو بعيد ، لأنَّ التحديد عادة بالإصبع إنَّما يكون بالعرض لا بالطّول ، لاحظ ما قيل في صلاة المسافر من أنّ الفرسخ ثلاثة أميال ، والميل أربعة آلاف ذراع بذراع اليد الذي طوله أربع وعشرون إصبعاً ، فمرادهم التحديد من حيث العرض ، لا الطول ، والله العالم .
قوله : (ولو تعارض الانحناء وتفريق الرجلين ففي ترجيح أيّهما نظر)[6]
قال المصنِّف(رحمه الله)في الذكرى : (ولو تردَّد الأمر بين الانحناء وبين تفريق الرجلين تعارض القول بقيام النصف الأعلى والأسفل ، ففي ترجيح أحدهما نظر ، أقربه ترجيح قيام الأعلى ، لأنَّه به يتحقّق الفرق بين الرّكوع والقيام ، لبقاء مسمَّى القيام معه ، ولأنَّه كقصر القامة)[7] .
هذا ، والمعروف بين الأعلام أنَّه يقدّم ما هو أقرب إلى القيام .
أقول : عندنا أربع صور :
الأُولى : أن يصدق القيام على كلٍّ من صورة تفريق الرّجلين والانحناء .
الثانية : أن يصدق القيام في صورة تفريق الرّجلين دون الانحناء .
الثالثة : عكس الصُّورة الثانية .
الرابعة : عدم صدق القيام على كلٍّ من التفريق والانحناء .
أمَّا الصُّورة الأُولى فالإنصاف : هو تقديم تفريق الرّجلين ، لأنّ معه نكون قد حافظنا على القيام والانتصاب ، بخلاف تقديم الانحناء ، فإنَّه وإن حافظنا معه على القيام إلَّا أنَّه نكون قد تركنا الانتصاب اختياراً ، وهو غير جائز .
وأمَّا الصُّورة الثانية : فهي واضحة ، بل تقديم التفريق فيها أولى من الصُّورة الأُولى ، كما لا يخفى .
وأمَّا الصُّورة الثالثة : فالأمر فيها واضح أيضاً ، وهو تقديم الانحناء على تفريق الرّجلين ، لأنّ مع الانحناء يصدق القيام ، ويسقط الانتصاب ، للاضطرار ، بخلاف ما لو قدمنا التفريق ، فإنَّه نكون قد تركنا القيام اختياراً ، وهو غير جائز .
وأمَّا الصُّورة الرابعة : فقد ذكر جماعة من الأعلام أنّه يقدّم ما هو أقرب إلى القيام ، بقاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور .
وفيه : أنَّه غير تامّة سنداً ، كما عرفت .
وثانياً : لم يتضح انطباقها على المقام .
والإنصاف : في هذه الصُّورة - بعد عدم صدق القيام على كلٍّ منهما - كون الوظيفة هي الصَّلاة من جلوس ، والله العالم بحقائق أحكامه .
قوله : (ولو عجز عن القعود استند فإن عجز اضطجع على جانبه الأيمن كالملحود ، ثم الأيسر ، ثم الاستلقاء كالمحتضر)
إذا عجز عن القعود بجميع أنحائه صلَّى مضطجعاً ، وفي الجواهر : (بلا خلاف أجده فيه بيننا كما اعترف به بعضهم ، بل الإجماع عليه إن لم يكن محصّلاً فهو محكي في كشف اللثام ، وغيره ... )[8] ، وفي الحدائق : (أنَّه لا خلاف بينهم في أنَّه لو عجز عن القعود بجميع وجوهه المتقدّمة ، فإنّه ينتقل إلى الاضطجاع ... )[9] ، وفي المدارك : (هذا ممّا لا خلاف فيه بين العلماء ... ) .
أقول : هناك تسالم بين جميع الأعصار والأمصار على الانتقال إلى الاضطجاع عند العجز عن العقود بجميع أنحائه ، بحيث خرجت المسألة عن الإجماع المصطلح عليه .
ويدلّ عليه - مضافا لذلك - : عدَّة من الرِّوايات بلغت حدّ الاستفاضة :
منها : حسنة أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السَّلام) (في قول الله عزوجل ﴿ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ﴾[10] قال : الصّحيح يصلّي قائماً وقعوداً ، المريض يصلي جالساً ، وعلى جنوبهم الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلّي جالساً ) [11] .
ومنها : موثَّقة سماعة (قال : سألتُه عن المريض لا يستطيع الجلوس ، قال : فليصلِّ وهو مضطجع ، وَلْيضع على جبهته شيئاً إذا سجد ، فإنَّه يجزي عنه ، ولم يكلَّف ما لا طاقة له به) [12] ، وقد عرفت أنَّ مضمرات سماعة مقبولة .
ومنها : ما رواه السَّيد المرتضى(رحمه الله)في رسالة المحكم والمتشابه - نقلاً من تفسير النعماني - بإسناده عن عليٍّ (عليه السَّلام) - في حديث - (قال : وأمَّا الرُّخصة التي هي الإطلاق بعد النهي - إلى أن قال : - ومثله قوله عزوجل : ﴿ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً ، وعلى جنوبكم ﴾[13] ، ومعنى الآية أنَّ الصَّحيح يصلِّي قائماً ، والمريض يصلِّي قاعداً ، ومَنْ لم يقدر أن يصلِّي قاعداً صلَّى مضطجعا ، ويُومئ بإيماءً ، فهذه رخصة جاءت بعد العزيمة) [14] .