الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

38/02/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع :القِيام في الصَّلاة (9)

 

وعليه ، فحيث إنَّ كلّاً من الخصوصيَّتين مشكوكة فالأصل هو البراءة من كلٍّ منهما ، وتكون النتيجة هي التخيير ، هذا أوَّلاً .

وثانياً : لو سلّمنا أنَّ المسألة من باب التزاحم ، إلَّا أنَّ الترتيب بين الأجزاء إنَّما هو في وجودها لا وجوبها ، إذ لا ترتيب في وجوبها ، بل هو في ضمن وجوب الكلّ المتحقّق قبل الشّروع ، فعند كلّ جزء يكون هو وما بعده سواء في صفة الوجوب ، والمفروض ثبوت العجز عن أحدهما لا بعينه ، فيتّصف المقدور ، وهو الواحد على البدل بصفة الوجوب ، ومقتضاه التخيير إن لم يكن ترجيح ، والمفروض عدمه ، إذ لا سبق من حيث الزّمان الذي هو من أحد المرجّحات في التدريجيات .

وأمَّا القول الثاني : فقد يستدلّ له بما ذكره جماعة من الأعلام ، منهم المحقِّق الهمداني (رحمه الله) ، حيث قال : (وبما أشرنا إليه من استقلال العقل بوجوب تقديم الأهمّ من الواجبين المتزاحمين ، ولو مع تأخُّره في الوجود ظهر حكم ما لو دار الأمر بين القيام والإيماء للرّكوع والسُّجود ، وبين الجلوس والإتيان بهما معه ، إذ لا مجال للارتياب في أهمية الرّكوع والسُّجود من القيام ، خصوصاً بعد الالتفات إلى ما ورد من أنَّ الصَّلاة : ثُلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود ، وأنَّ أوَّل الصَّلاة الرّكوع ، وغير ذلك ممَّا يشهد بأنَّ الاهتمام بهما أشدّ من الاهتمام بالقيام .

مضافاً إلى ظهور المستفيضة التي ورد فيها الأمر بالصَّلاة جالساً لمن لا يستطيع أن يصلِّي قائماً في الرّخصة في الصّلاة جالساً لمن لا يستطيع الإتيان بالصَّلاة المتعارفة المشتملة على الرّكوع والسّجود عن قيام ، كما نبه عليه شيخنا المرتضى ... )[1] .

وفيه : أنَّ التقديم بالأهمية مبنيّ على كون المسألة من باب التزاحم ، إذ فيها يرجّح الأهم على المهم ، ولكنَّك عرفت أنّ المسألة ليست من هذا الباب ، بل هي من باب التعارض ، وبعد التعارض والتساقط يرجع إلى الأصل العملي ، وهو البراءة عن كلٍّ من الخصوصيتين ونتيجته هو التخيير ، هذا مقتضى الصناعة العلميّة .

ولكنَّ الأحوط استحباباً هو الجمع بين الوظيفتين ، والله العالم .

ثمَّ إنَّ الرّواية الواردة في أنَّ الصَّلاة ثلاثة أثلاث ، هي حسنة الحلبي[2] عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) ، والرِّواية الواردة في أنَّ أوّل الصَّلاة الرّكوع هي رواية محمّد بن قيس[3] عن أبي جعفر (عليه السَّلام) ، وهي صحيحة بناءً على أنّ المراد بمحمّد بن عيسى الوارد في السّند هو اليقطيني ، وأشار بقوله : (إلى ظهور المستفيضة ... ) إلى عدَّة روايات ذكرها صاحب الوسائل (رحمه الله) في الباب الأوّل من أبواب القيام ، فراجع .

 

قوله : (ويقعد كيف شاء ، والأفضل التربُّع قارئاً ، وثني الرِّجلين راكعاً ، والتَّوْرُك متشهداً ، ويجب أن يرفع الفخذين في الرُّكوع ، وينحني قدر ما يحاذي وجهه ما قدَّام ركبتيه من الأرض)[4]

المعروف بين الأعلام أنَّ القعود لا يختصّ بكيفيَّة خاصَّة ، بل يجلس كيف اتّفق ، وذلك لإطلاق الأمر بالجلوس في الرّوايات .

مضافاً إلى صحيحة عبد الله بن المغيرة ، وصفوان بن يحيى ، وابن أبي عمير عن أصحابهم عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (في الصَّلاة في المحمل ، فقال : صلّ متربعاً ، وممدود الرّجلين ، وكيفما أمكنك)[5] ، ولا يضرها الإرسال ، لأننا نطمئنّ بوجود الثقة في أصحابهم ، إذ هو جمع ، ومن غير الممكن عادةً أن لا يكون فيهم ثقة .

ثمَّ إنَّ المشهور بينهم أفضليَّة التربُّع حال القراءة ، وثني الرّجلين حال الركوع ، وفي المدارك : (هذا قول لعلمائنا وأكثر العامَّة ... ) ، وفي الجواهر : (بلا خلاف أجده ، بل عن صريح الخلاف ، وظاهر غيره ، الإجماع عليه ... )[6] .

أقول : يدلّ عليه - مضافاً للتسالم بين الأعلام - حسنة حمران بن أعين عن أحدهما (عليهما السَّلام) (قال : كان أبي إذا صلَّى جالساً تَرَبَّعَ ، فإذا رَكَع ثنى رجلَيْه)[7] ، وفي المدارك (قال في المنتهى : وليس هذا على الوجوب بالإجماع ، ولما رواه ابن بابويه عن معاوية بن ميسرة : أنَّه سأل أبا عبد الله (عليه السَّلام) يصلِّي الرَّجل وهو جالس متربَّع ، ومبسوط الرجلين ، فقال : لا بأس بذلك)[8] .

وروى أيضاً عن الصَّادق (عليه السَّلام) (أنَّه قال - في الصَّلاة في المحمل - : صلّ متربّعاً ، وممدود الرِّجلين ، وكيفما أمكنك)[9] .

أقول : قد عرفت أنَّ الرّواية صحيحة ، وأمَّا رواية معاوية بن ميسرة فضعيفة لعدم وثاقة ابن ميسرة ؛ ثمَّ إنَّه لا فرق باتِّفاق الأعلام بين الفريضة والنافلة .

والمراد بالتربُّع هنا على ما فسَّره جماعة من الأعلام ، بل في الجواهر : (لا أعرف خلافاً أيضاً في أنَّ المراد بالتربُّع هو نصب الفخذين والسَّاتين ... ) ، وفي الحدائق : (فسَّروا التربُّع هنا بأن ينصب فخذيه وساقيه كهيئة جلوس المرأة في الصَّلاة ... )[10] .

وبالجملة ، فالمعروف بينهم هو أنَّ التربع عبارة عن رفع فخذيه وساقيه والجلوس على إليتيه .

ولكنَّ هذا التفسير للتربُّع ممَّا لا يساعد عليه كلام أهل اللغة ، فإنَّهم فسَّروا الجلوس متربعاً بغير هذه الكيفيَّة ، ففي مجمع البحرين : ( تربَّع في جلوسه ، وجلس متربعاً ، هو أنْ يقعد على وركيه ، ويمد ركبته اليمنى إلى جانب يمينه ، وقدمه إلى جانب يساره ، واليسرى بالعكس ... )[11] .

أقول : لعلّ الأعلام فهموا منه المعنى المتقدِّم من قرائن خارجيَّة ، والله العالم .

وهناك تفسير آخر للتربُّع يستبعد إرادته من الرِّواية ، وهو عبارة عن وضع إحدى القدمين على الركبة ، والأخرى تحت الفخذ ، وذكر بعض الأعلام أنَّه جلوس المتكبرين ، ونسبه إلى القيل ؛ هذا بالنسبة للتربُّع .

، وأمَّا ثني الرجلين : فالمراد منه أن يفترشهما تحته ، ويقعد على صدورهما بغير إقعاء .

وقد عرفت الدَّليل على استحبابه حال الركوع ، وهو حسنة حمران المتقدِّمة .

وأمَّا استحباب التورُّك حال التشهّد فهو المعروف بين الأعلام المتأخرين .


[1] مصباح الفقيه، آقا رضا الهمداني، ج12، ص33.
[2] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج6، ص310، أبواب الرُّكوع، باب9، ح1، ط آل البیت.
[3] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج6، ص311، أبواب الرُّكوع، باب9، ح6، ط آل البیت.
[4] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص168.
[5] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج5، ص502، أبواب القيام، باب11، ح5، ط آل البیت.
[6] جواهر الكلام، الشيخ محمّدحسن النّجفي، ج9، ص283.
[7] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج5، ص502، أبواب القيام، باب11، ح4، ط آل البیت.
[8] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج5، ص502، أبواب القيام، باب11، ح3، ط آل البیت.
[9] وسائل الشيعة، العلامة الشيخ حرّ العاملي، ج5، ص502، أبواب القيام، باب11، ح5، ط آل البیت.
[10] الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني (صاحب الحدائق)، ج8، ص73.
[11] مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي، ج4، ص331، ط الحسینی.