الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
37/06/20
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : الأَذان والإقامة (13)
قوله : (ولزوم القِبلة من غيرِ التواءٍ)[1]
المعروف بين الأعلام استحباب استقبال القبلة حال الأَذان والإقامة ، وفي الجواهر : (وفاقاً للمشهور نقلاً وتحصيلاً ، بل في الخِلاف والتذكرة ، وعن إرشاد الجعفريَّة : الإجماع عليه في الأذان ، بل في المدارك والذكرى وظاهر الغنية أو صريحها : الإجماع عليه فيهما ... )[2] .
أقول : أمَّا بالنسبة للأَذان فهناك تسالم بينهم على استحباب الاستقبال حاله ، وقد يستدلّ له - مضافاً لذلك - ببعض الأخبار :
منها : خبر دعائم الإسلام عن عليّ عليه السَّلام ( يَسْتَقْبِلُ الْمُؤَذِّنُ الْقِبْلَةَ فِي الْأَذَانِ وَ الْإِقَامَةِ ، فَإِذَا قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، حَوَّلَ وَجْهَهُ يَمِيناً وَ شِمَالًا)[3] ، ولكنَّه ضعيف بالإرسال .
ومع قطع النَّظر عن ضعف السَّند فيمكن حمله على التقيَّة لموافقته لقول الشافعي قدس سرُّه ، حيث قال : (يستحبّ له أن يلتفت عن يمينه عند قوله حيَّ على الصَّلاة ، وعن يساره عند قوله : حيَّ على الفلاح .
وإنَّما قلنا : يمكن حمله على التقيَّة ، ولم نجزم بذلك ، لأنَّ الحمل على التقيَّة إنَّما يكون في حال التعارض واستقراره .
ومنها - كما في الجواهر - إطلاق قوله عليه السَّلام (خَيْر المجالس ما استقبل به القِبلة ) [4] ، وهو أيضاً ضعيف بالإرسال .
مضافاً إلى أنَّه أجنبي عمَّا نحن فيه ، إذ مورده كيفيَّة الجلوس ، وأنَّ خير الجلوس ما كان مستقبلاً للقِبلة .
ثمَّ اعلم أنَّه يتأكَّد الاستحباب حال الشتهد - أي الشَّهادتين - وقدِ استُدلّ له بروايتَيْن :
الأُولى : صحيحة محمَّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام (قال : سألتُه عن الرَّجل يؤذِّن وهو يمشي ، أو على ظهر دابَّته ، أو على غير طهور ، فقال : نعم ، إذا كان التشهد مستقبل القبلة فلا بأس) [5] ، وهي صحيحة بطريق الشَّيخ وإن كانت ضعيفة بطريق الصَّدوق قدس سرُّه .
الثانية : حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السَّلام (قال : قلتُ له : يؤذِّن الرَّجلُ وهو على غير القِبلة ؟ قال : إذا كان التشهُّد مستقبل القِبلة فلا بأس) [6] ، فإنَّ مفهوم هاتين الرِّوايتين ثبوت البأس إذا لم يكن مستقبلاً حال التشهد .
إن قلت : ثبوت البأس معناه كراهة ترك الاستقبال ، فلِماذا حملته على تأكُّد استحباب الاستقبال .
قلت : الظَّاهر أنَّ هناك مصلحة في الاستقبال وإن كان التعبير في الرِّواية يلائم كراهة الترك .
إن قلت : بناءً على ذلك يجب الاستقبال حال التشهد لا الاستحباب ، إذ هذا هو المفهوم من الروايتَيْن .
قلت : إنَّ ظاهرهما وإن كان ذلك إلَّا أنَّه يحملان على الاستحباب ، لِمَا تقدَّم من صحيحة زرارة (تؤذِّن وأنت على غيرِ وضوءٍ ، في ثوبٍ واحدٍ ، قائماً أو قاعداً ، وأينما توجَّهت ... ) [7] ، هذا بالنسبة للأذان .
وأمَّا الإقامة : فقد عرفت أنَّ المشهور على استحباب الاستقبال حالها أيضاً ، وقال الشَّيخ المفيد قدس سرُّه : (إنَّه لا يجوز الإِقامة إلَّا وهو قائم متوجّه إلى القبلة) ، وظاهره وجوب الاستقبال فيها ، ونقله في المختلف عن المرتضى قدس سرُّه في المصباح والجمل ، ووافقه صاحب الحدائق قدس سرُّه ، حيث ذهب إلى وجوب الاستقبال فيها .
وقد يستدلّ لهم بثلاث روايات :
الأُولى : رواية سليمان بن صالح عن أبي عبد الله عليه السَّلام (قال : لا يقيم أحدكم الصَّلاة - إلى أن قال : - وَلْيتمكن في الإقامة كما يتمكَّن في الصَّلاة ، فإنَّه إذا أخذ في الإِقامة فهو في صلاة) [8] ، ولكنَّها ضعيفة بجهالة صالح بن عقبة ، واشتراك سُليمان بن صالح بين الثقة وغيره .
الثانية : رواية يونس الشِّيباني عن أبي عبد الله عليه السَّلام المتقدِّمة - وهي طويلة - ومحلّ الشَّاهد قوله عليه السَّلام (إذا أقمت الصَّلاة فأقم مترسّلاً فإنَّك في الصَّلاة ...) [9] ، وقد عرفت أنَّها ضعيفة بجهالة كلٍّ من صالح بن عقبة ، ويونس الشِّيباني .
الثالثة : رواية أبي هارون المكفوف (قال : قال أبو عبد الله عليه السَّلام : يا أبا هارون ! الإِقامة من الصَّلاة ، فإذا أقمت فلا تتكلَّم ، ولا تُؤم بيدك) [10] ، وهي ضعيفة أيضاً بجهالة صالح بن عقبة وأبي هارون المكفوف .
وجه الاستدلال في هذه الرِّوايات : هو أنَّها دلَّت على أنَّ الإِقامة من الصَّلاة ، والداخل فيها داخل في الصَّلاة ، فيُشترط في الإِقامة ما يشترط في الصَّلاة .
ولا وجه لحمل هذه الرِّوايات على تنزيل الإقامة منزلة الصَّلاة في خصوص الترسّل والتمكّن والكلام والإيماء باليد ، إذ الحمل على خصوص ذلك ينافي إطلاق التنزيل فيها .
أضف إلى ذلك : أنَّ الحمل على خصوص الترسّل في رواية يونس منافٍ لِمَا في الذَّيل المتضمن استشكال السَّائل على الإمام عليه السَّلام في تجوّز المشي في الإقامة مع عدم جوازه في الصَّلاة .
وجواب الإمام عليه السَّلام له : أنَّه يجوز المشي في الصَّلاة فلو لم يدلّ الكلام على عموم التنزيل لم يكن وجه لاستشكال السَّائل .
والإنصاف : أنَّه لولا ضعف السَّند لذهبنا إلى اشتراط صحَّة الإِقامة بالاستقبال .
بقي شيء في المقام ، وهو ما ذكره العلَّامة قدس سرُّه في المنتهى ، وتبعه عليه بعض الأعلام ، قال في المنتهى : (المستحبّ ثبات المؤذِّن على الاستقبال في أثناء الأَذان والإقامة ، ويُكره له الالتفات يميناً وشمالاً ... )[11] ، وقال المصنِّف قدس سرُّه في الذكرى : (ويُكره الالتفات يميناً وشمالاً ، سواء كان على المنارة أو لا ، ولا يلوي عنقه عند الحيعلتين ، ولا يستدير بجميع بدنه إن كان في المنارة)[12] .
أقول : لا دليل على الكراهة .
نعم ، هو خلاف الاستحباب ، وترك المستحبّ لا يعني الكراهة ، كما لا يخفى ، والله العالم .
قوله : (ووضع إصبعَيْه في أُذُنَيْه)
كما ذكره جماعة من الأعلام منهم المصنف قدس سرُّه في الذكرى ، وتدلّ عليه روايتان للحسن بن السَّري عن أبي عبد الله عليه السَّلام (قال : من السُّنة إذا أذَّن الرَّجل أنْ يضع إصبعه في أذنيه) [13] ، ونحوها روايته الأخرى[14] ، ولكنَّهما ضعيفتان بالحسن بن السَّري ، فإنَّه لم يوثَّق من المتقدِّمين .
نعم ، وثَّقه العلَّامة قدس سرُّه ، وابن داود قدس سرُّه ، ولكنَّك عرفت أنَّه لا يعتمد على توثيق المتأخِّرين .
وأمَّا نسبة التوثيق إلى النجاشي قدس سرُّه ، حيث إنَّ في بعض نسخ رجاله مشتمل على توثيقه ، فلم تثبت بدليل معتبر ، بل كلّ النسخ الموجودة في هذه الأيام خالية عن التوثيق .
وقد يُقال : بوثاقته ، باعتبار أنَّ جعفر بن بشير روى عنه ، وقال النجاشي في حقه : (إنه روى عن الثقات ورووا عنه) .
ولكنَّك ذكرنا في محلِّه أنَّ عبارة النجاشي قدس سرُّه لا تدلّ على الحصر ، أي إنَّه لا يروي إلَّا عن الثقات ، بل المراد هو مدح الرَّجل ، وأنَّه كثيراً ما يروي عن الثقات ، بخلاف غيره الذي يروى عن الضعفاء ، إذ الرِّواية كثيراً عن الضعفاء تعدّ قدحاً في حقِّ الرَّجل الرَّاوي عنهم .