الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/05/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القبلة

ثمَّ إنَّ بعض الأعلام استشكل في دلالة الصّحيحة بأنَّها غير صريحة الدَّلالة في المدَّعى ، ولا ظاهرة إلَّا من حيث العموم لحالتي الاختيار والضَّرورة ، فيمكن تخصيصها بحالة الضَّرورة جمعاً بينها وبين الرّوايتَيْن المتقدّمتَيْن الدَّالتَيْن على المنع .

وفيه : أنَّ هذه الصَّحيحة كادت أن تكون صريحة في حال السِّعة والاختيار لا الاضطرار ، ولا أقلّ من أنَّ ظهورها في الإطلاق قويّ جدّاً ، فكيف يقدِّم عليه إطلاق صحيحة عبد الرّحمان ، وموثَّقة ابن سنان المتقدمتين ، بل التأمُّل فيهما يفضي إلى أنَّ المتبادر منهما ليس إلَّا إرادة الفرائض اليوميَّة ، فلا تشملان ما نحن فيه ، أي : الصَّلاة المنذورة .

إن قلتُ : إنَّ تلك الرّوايتين إذا كانتا منصرفتين إلى الفرائض اليوميَّة ، فلماذا منعتم من سائر الصَّلوات الواجبة بالأصالة اختياراً على الراحلة .

قلت : إن منعنا ذلك لأجل عموم ما دلَّ على شرطيَّة الاستقبال ، وعلى جزئيَّة الرُّكوع ، ونحوهما .

وهذا بخلاف النافلة التي عَرَضها الوجوب بنذر وشبهه ، ممَّا لا يقتضي إلَّا وجوبها على حسب مشروعيَّتها وملحوظيَّتها للجاعل ، فلا يجب عليه إلَّا فِعْلها كذلك ، بحيث يصدق عليه اسم الوفاء بالنذر .

نعم ، إذا كان هناك تسالم بين الأعلام على أنَّه متى عرضها الوجوب أُعطي حكم الواجبات بالأصالة ، فيُؤخذ به حينئذٍ .

ولكنَّ الإنصاف : أنَّ هذا التسالم غير ثابت .

 

نعم ، ادَّعى المصنِّف رحمه الله في الذكرى : الإجماع على أنَّه لا تصحّ الفريضة على الرّاحلة اختياراً ، وهو في الواقع تسالم أكثر من الإجماع المصطلح عليه ، إلَّا أنَّه دليل لُبِّي يُقتصر فيه على القدر المتيقن ، وهو غير محلّ الفرض .

والخلاصة : أنَّ مقتضى الصناعة العلميَّة جواز إتيان المنذورة على الرَّاحلة اختياراً ، إلَّا أنَّ الأحوط استحباباً المنع تحصيلاً للبراءة اليقينيَّة .

ثمَّ إنَّه لا فرق على الظَّاهر بين الفرائض بالأصالة حتَّى صلاة الجنازة اتفاقاً ، إذ أظهر الأركان فيها القيام والاستقبال والمفروض فواتهما ، أو فوات أحدهما .

إن قلت : إنَّ صحيحة عبد الرّحمان ، وموثَّقة سُماعة المتقدّمتَيْن منصرفتان إلى اليوميَّة خاصّة ، فلا تشملان صلاة الجنازة .

قلت : يمكن الاستدلال على المنع في صلاة الجنازة بإطلاق ما دلَّ على اشتراط القيام والاستقبال فيها هذا الإطلاق السالم عن معارضة ما يقتضي جوازها على الراحلة ، المفوِّتة لذلك اختياراً ، والله العالم .

الأمر الثاني : في صحة صلاة الفريضة على الرَّاحلة اختياراً ، سواء أكانت واقفةً أم سائرةً ، مع إمكان مراعاة جميع الأجزاء والشُّروط من القيام والاستقبال والرُّكوع والسُّجود ، والطمأنينة بالمعنى الأوَّل .

ذهب جماعة من الأعلام إلى الصّحَّة ، ولكنَّ المشهور بينهم عدمها ، منهم المصنِّف والشَّهيد والمحقِّق الثانيان رحمهم الله جميعاً ، وفي مجمع البرهان يكاد أن يكون لا خلاف فيه .

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (لو تمكَّن الرَّاكب من الاستقبال واستيفاء الأفعال كالرَّاكب في السَّفينة ، أو على بعير معقول ، ففي صحَّة صلاته وجهان ، أصحُّهما المنع .

أمَّا الأوَّل فَلِعدم الاستقرار ، ولهذا لا يصحّ صلاة الماشي مستقبلاً مستوفياً للأفعال ، لأنَّ المشي أفعال كثيرة خارجة من الصَّلاة فتبطلها ، وإنَّما خرجت النافلة بدليلٍ آخر مع المسامحة فيها .

وأما البعير المعقول فلأنَّ إطلاق الأمر بالصَّلاة ينصرف إلى القرار المعهود ، وهو ما كان على الأرض ، وفي معناها كالزورق المشدود على الساحل - إلى أن قال : - ولو كان الدَّابة واقف ، وأمكن استيفاء الأفعال فهي مرتبة على المعقولة أَوْلى بالبطلان هنا ، لأنَّ الحركة إليها أقرب)[1] .

ويرد على المصنِّف رحمه الله : إنَّنا نمنع الانصراف إلى القرار المعهود ، بل المراد مطلق الأمكنة الصَّالحة لاستيفاء الأفعال ، بل من الأمكنة المخترعة ما يقطع بندوره ، وعدم دخوله في الإطلاق الذي يفرض إرادة المعهود منه ، ومع ذلك تصحُّ الصّلاة فيه ، كما لو صلَّى على رفٍّ معلَّق بين نخلتَيْن ، فإنَّه مكان مخترع ، لم يُعْهد الاستقرار فيه .

ويدلُّ على الصّحَّة : صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام (قال : سألتُه عن الرَّجل هل يصلح له أن يصلِّي على الرفِّ المعلَّق بين نخلتَيْن ؟ فقال : إن كان مستوياً يقدر على الصَّلاة فيه فلا بأس)[2] .

وهذه الرِّواية ، وإن كانت ضعيفة في كتاب قَرب الإسناد بعبد الله بن الحسن فإنَّه مهمل ، إلَّا أنَّ الشَّيخ رحمه الله رواها بطريق صحيحٍ إلى عليّ بن جعفر ، والمراد من تعليق الرفِّ إمَّا خصوص ما عُلِّق بالحبال ، كما هو الظَّاهر من التعليق أو الأعمّ منه ، ومن المسمَّر بالمسامير .

 

وعلى أيِّ حالٍ ، فتدلّ الصَّحيحة - ولو بترك الاستفصال - على أنَّ المعلَّق بالحِبال المتحرِّك بطبيعة الحال تجوز الصَّلاة عليه إذا كان الرفُّ مستوياً ، بحيث يتمكَّن من الصَّلاة عليه من غير إخلاد بها ، وأنَّ الحركة التبعيَّة الحاصلة لدى قيام المصلِّي وجلوسه وركوعه وسجوده غير قادحة .

ومهما يكن ، فقدِ استُدلّ للمنع بعدَّة أدلَّة :

منها : ما عن فخر المحقِّقين رحمه الله من الاستدلال على البطلان بقوله تعالى : ﴿حافظوا على الصَّلوات والصَّلاة الوسطى[3] ، بتقريب أنَّ المراد بالمحافظة المداومة ، وحفظها من المفسدات والمبطلات ، وإنَّما يتحقَّق ذلك في مكان اتّخذ القرار عادة ، فإنَّ غيره كظهر الدَّابة في معرض الزَّوال .

وفيه : أنَّ المحافظة على الصَّلاة عبارة عن عدم تضييعها ، والمواظبة على فِعلها تامَّةَ الأجزاء والشَّرائط ، والمفروض إمكان تحقّقها كذلك .

ومنها : ما ذكره أيضاً قوله (صلى الله عليه وآله) : (جُعِلت لي الأرض مسجداً) ، أي : مصلَّى ، فلا يصلح إلَّا فيما في معناها ، وإنَّما عدينا إليه بالإجماع ، ولم يثبت هنا .

وفيه : أنَّ النبوي لم يُقصد به الاحتراز عمَّا عدا الأرض ، إذ لا خِلاف في عدم اعتبار كون المصلِّي أرضاً ، بل المقصود به إمَّا إظهار الامتنان بتوسعة مكان الصَّلاة ، وعدم اختصاصه بمكانٍ خاص ، كمسجد الحرام أو النبوي الشَّريف ، وغيرهما من المساجد ، والأماكن الخاصَّة ، فيكون التعبير بالأرض جارياً مجرى العادة في مقامِ إظهارِ التوسعة ، بحيث أُرِيد مطلق المكان الصَّالح لِأنْ تقع الصَّلاة فيه ، لا خصوص الأرض ، أو أن المراد بها مسجد الجبهة .

وبالجملة ، فما ذكره غير تامّ .

ومنها : أنَّ الصَّلاة على الرَّاحلة فاقدة للجزم بالنيَّة ، أي الوقوف من أوَّل العمل بسلامته من طرق المنافي ، إذ لا يطمئنّ في هذه الحالة بالسَّلامة من طرق المنافي .

وفيه أوَّلاً : أنَّ محلِّ الكلام فيما إذا كان متمكناً من استيفاء الأجزاء والشَّرائط التي منها الجزم بالنيَّة ، كما إذا كانت الدَّابة منقادةً ، على وجه يطمئنّ بذلك .

وثانياً : أنَّه لا يُعتبر الجزم بالنيَّة ، كما ذكرنا في أكثر من مناسبة .

ومنها : الرِّوايات المتقدِّمة الناهية عن الصَّلاة على الدَّابة ، كصحيحة عبد الرَّحمان ، وموثَّقة عبد الله بن سنان .

ولكنَّ الإنصاف : أنَّ التأمُّل في هذه الرِّوايات يُوجِب القطع بأنَّ النهي عن الصَّلاة على الراحلة اختياراً ، لكونه مستلزماً لفوات كثيرٍ من الواجبات ، كالقيام والاستقبال والركوع والسُّجود ، فمن أجل ذلك تكون الصَّلاة فاسدة .

والخلاصة : أنَّ الأقوى صحَّة صلاة الفريضة اختياراً على الدابَّة السَّائرة ، فضلاً عن الواقفة ، أو البعير المعقول على تقديرِ التمكُّن من استيفاء الأجزاء والشرائط ، وهذا الفرض وإن كان بعيداً قلّ ما يتفق حصوله في الخارج ، خصوصاً بالنسبة الدَّابة السَّائرة ، ولكن كثيراً ما يكون المكلّف في حدّ ذاته عاجزاً ، بحيث لا يجب عليه إلَّا الصَّلاة عن جلوس مُومياً للركوع والسَّجود .

وعليه ، فتظهر ثمرة الخِلاف غالباً في مثل هذا الفرض ، حيث يجوز الإتيان بها على المحمل اختياراً ، ما لم يكن مفوِّتاً للاستقبال ، والطمأنينة بالمعنى الأوَّل ، بخلاف ما لو قلنا بالمنع مطلقاً إلَّا عند الضَّرورة .

ودعوى : أنَّ الحركة الطبيعة اللاحقة للمصلّي بواسطة سير الدَّابة منافية لصدق الاستقرار المعتبر في الصَّلاة لدى التمكّن منه .

مدفوعة : بأنَّ غاية ما يمكن استفادته من الأدلَّة الشرعيَّة ، كما يأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى - في أفعال الصَّلاة إنَّما هو كون المصلِّي بنفسه مستقرّاً ،- أي : الطمأنينة بالمعنى الأوَّل - لا مكانه ، والله العالم بحقائق أحكامه .


[1] الذكرى، الشهيد الأول، ص167.
[2] وسائل الشَّيعة، الشَّيخ الحر العاملّي، ج5، ص178، أبواب القِبلة، باب35، ح1، ط آل البيت.
[3] البقرة/السورة2، الآية238.