الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/05/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القبلة

 

وإن كان الانحراف كثيراً فلا يجوز الإيتمام في المقام ، حيث إنَّه يتولّد للمأموم بسبب علمه الإجمالي بانحراف أحدهما عن القبلة علم تفصيليّ ببطلان صلاته ، إمَّا لفساد صلاته من حيث هي ، أو فساد صلاة إمامه ، ومعه لا يصح الائتمام .

وأمَّا ما ذكره صاحب الجواهر رحمه الله من الصحّة ، لقاعدة الإجزاء ففي غير محله ، إذ لا معنى لجريانها مع علم المأموم ببطلان صلاته على التقديرين ، والله العالم .

قوله : (ولو تغيَّر اجتهاد المأموم في أثناء الصَّلاة إلى انحراف يسيرٍ انحرف مستمرّاً ، وإن كان كثيراً نوى الإفراد)[1]

قد ظهر حكمه مما تقدم ، فلا حاجة للإعادة .

قوله : (ولو عوَّل المقلِّد على رأيه لأمارةِ صحّ ، وإلَّا أعاد وإن أصاب)

لا إشكال في المسألة ، لأن الأمارة الشرعية بحكم العلم فتكون مقدمة على الاجتهاد والتحري ، وإن كان الأمارة مبنية على لاجتهاد لصح أيضا لما عرفت أن الأخذ برأي غيره نوع من الاجتهاد وإن سمي تقليدا .

وأما إذا لم يكن عن أمارة شرعية ، ولا عن تقليد - أي اجتهاد - فعليه الإعادة ، ,عن اتفق الإصابة ، لأن دخوله أو استمراريته غير مشروع ، فكيف يحكم بالصحة ؟!

قوله : (ولو أبصر في الأثناء ، وكان عاميّاً استمرّ ، وإن كان مجتهداً اجتهد ، فإنْ وافق أو كان منحرفاً يسيراً استقام وأتمَّ ، وإن كان كثيراً أعاد)

المعروف بين الأعلام أنَّه إذا صلَّى الأعمى مقلِّداً ، ثمَّ أبصر في الأثناء ، فإن كان عاميّاً - أي لا يمكنه التعلُّم إذا علم ، بحيث كان فاقداً للبصيرة - فيستمرّ أيضاً ، لأنَّ فرضه التقليد .

وإن كان ممَّن يتمكَّن من الاجتهاد في أثناء الصَّلاة ، بحيث لا تبطل به ، اجتهد وجوباً ، لتغيُّر موضوعه ، وشرطيّة القبلة للكلّ والبعض ، فإنْ وافق جهة الكعبة الشريفة فلا بحث ، وإن كان منحرفاً إلى اليمين واليسار استأنف الصَّلاة ، وأولى منه إذا كان مستديراً .

قوله : (ولوِ افتقر إلى زمان طويل ، أو فِعْل كثير فالأقرب البناء على حاله)

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (ولوِ افتقر في اجتهاد إلى زمانٍ كثيرٍ لا يتسامح في الصَّلاة بمثله فالأقرب البناء وسقوط الاجتهاد ، لأنَّه في معنى العامّي ، لتحريم قطع الصَّلاة ، والظَّاهر إصابة المخبر ، ويقوى مع كونه مخبراً عن علم ، بل يمكن هنا عدم الاجتهاد لِمَا سلف ، واحتاط في المعتبر الاستيناف ، مع افتقاره إلى تأمُّل كثير ، وهو احتياط المبسوط ، قال : وإن قلنا له : يمضي فيها لأنّها لا دليل على انتقاله كان قويّاً ... )[2] .

أقول : لوِ افتقر إلى زمان كثيرٍ لا يتسامح به ، أو فِعْل كثيرٍ مضرٍّ في الصَّلاة ، فالأقوى هو الاستيناف ، لا البناء ، لأنَّ الدليل القوي عندهم على حرمة قطع الصَّلاة هو الإجماع ، وهو دليل لُبّي ، يُقتضر فيه على القدر الميتقّن ، وهو غير هذه الحالة .

هذا إذا قلنا : بحجية الإجماع المنقول ، وإلَّا فقد عرفت في أكثر من مناسبة أنَّه يصلح للتأييد فقط ، لا للاستدلال .

وعليه ، فيقطع الصّلاة ، ويجتهد في أمر القبلة ، ثمَّ يستأنف ، والله العالم .

قوله : (ولو كف البصر في الأثناء فإن التوى قلد في استقامته فإن تعذر قطع مع سعة الوقت واستمر مع ضيقه إلا عن واحدة ، ولو وسع أربعا واحتسب بما هو فيه)

قال المصنِّف في الذكرى (ولو صلَّى بصير فكفَّ في الأثناء بنى ، فإن انحرف قصداً بطلت إن خرج عن السّمت ، وإن كان اتفاقاً ، وأمكنه عِلْم الاستقامة استقام ، ما لم يكن قد خرج إلى حدِّ الإبطال بالخروج عن الجهة ؛ وإن لم يمكنه فإنِ اتفق مسدِّد عوَّل عليه ، وينتظره إن لم يخرج عن كونه مصليّاً ، وإلَّا فالأقرب البطلان إذا توقع مسدِّداً بَعدُ ، ولو ضاق الزمان عن التوقُّف - كأن بقي مقدار أربع جهات - صلَّى إليه ، وكذا يصلِّي إلى الأربع مع السِّعة ، وعدم توقع المسدِّد ، وهل يحتسب بتلك الصَّلاة منها نظر من حيث وقوعها في جهتَيْن ، فلا تكون صحيحة ؛ وعن صحّة ما سبق منها قطعاً ، وجواز ابتدائها الآن إلى هذه الجهة بأجمعها فالبعض أَوْلى ... )

أقول : قد عرفت سابقاً أنَّه عندما مرتبتان :

الأولى : العلم بالجهة ، وما بحكمه ، كالأمارة الشرعيَّة .

الثانية : الاجتهاد والتحري ، بحيث يحصل له الظنّ من خلال ذلك ، وإلَّا إذا كان متحيِّراً ، فالمشهور بين الأعلام أنَّه يصلِّي إلى أربع جهاتٍ مع الإمكان وسِعة الوقت ، ومع الضيق فيصلِّي إلى ما أمكن ، أو إلى جهةٍ واحدة .

ولكنَّ الإنصاف - كما تقدَّم - : أنَّ المتحيِّر يصلِّي إلى جهةٍ واحدةٍ وإن كان الوقت واسعاً ، وقد ذكرنا الدَّليل ، فلا حاجة للإعادة ، وهذه ضابطة كليَّة تنطبق على جميع الموارد وإن كان المصلِّي أعمى ، والله العالم .

قوله : (ومَنْ صلَّى إلى جهةٍ باجتهاد أو تقليد أو لضيق الوقت ، وتبيَّن الخطأ ، فإن كان منحرفاً يسيراً استقام إن كان في الأثناء ، وإلَّا أجزأ)

مَنْ صلَّى إلى جهة ظانّاً أنَّها القِبلة باجتهاد أو تقليد - وقد عرفت أنَّه داخل في الاجتهاد - أو لضِيق الوقت عن الجهات الأربع ، أو لاختيار المكلَّف ، بناءً على القول بالتخيير ، ثمَّ تبين له أنَّه منحرف يسيراً ، أي إلى ما بين المشرق والمغرب ، فتارةً يتبين له الانحراف بعد الفراغ من الصَّلاة ، وأخرى في الأثناء .

أمَّا الصورة الأولى : فالمعروف بين الأعلام أنَّ الصَّلاة صحيحة ، وفي الجواهر : (بلا خلاف معتدّ به بين المتأخرين من أصحابنا ومتأخِّريهم ، بل في التذكرة والتنقيح والمفاتيح والمحكي عن الروض والمقاصد العليا الإجماع عليه ... )[3] .

أقول : قد استدلّ بأمرين :

الأوَّل : الإجماع المحكي عن بعض الأعلام .

والثاني : الأخبار الواردة في المقام .

أمَّا الإجماع المنقول بخبر الواحد فهو يصلح للتأييد ، كما عرفت في أكثر من مناسبة ، وليس حجةً يصحّ الاستدلال به .

وأمَّا الأخبار فكثيرة :

منها : صحيحة معاوية بن عمَّار ( أنَّه سأَل أَبا عبد الله عليه السلام عن الرُّجل يقوم في الصَّلاة ، ثمَّ ينظر بعد ما فرغ ، فيرى أنَّه قدِ انحرف عن القِبلة يميناً أو شمالاً ، فقال له : قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة )[4] .

ومنها : موثَّقة الحسين بن علوان عن جعفر بن محمَّد عن أبيه عن عليّ عليه السلام ( أنَّه كان يقول : مَنْ صلَّى على غير القبلة - وهو يرى أنَّه على القِبلة - ثمَّ عرف بعد ذلك ، فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق والمغرب )[5] .

 


[1] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص160.
[2] الذكرى، الشهيد الأول، ص166.
[3] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج8، ص24.
[4] وسائل الشيعة، الشّيخ الحر العاملي، ج4، ص314، أبواب القِبلة، باب10، ح1، ط آل البيت.
[5] وسائل الشيعة، الشّيخ الحر العاملي، ج4، ص315، أبواب القِبلة، باب10، ح5، ط آل البيت.