الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/05/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القبلة

وفي كشف اللثام : (أنَّ ظاهر المختلف المنع في الإمرأة) ، وفي كشف اللثام أيضاً [1] : ( ولو تعدَّد المخبِر رجع إلى الأعلام الأعدل ، كما في المننتهى ، والتذكرة ، ونهاية الأحكام ، والمصنِّف في الذكرى ، وهنا - أي : كتاب الدروس - قلَّد أعلمهما ، وفي البيان الأعلم فالأعدل ، فلو رجع إلى المفضول بطلت صلاته ، كما في المنتهى).

وفيه أيضاً : أنَّه لا عبرة بظنّ المقلّد هنا ، فإنَّ ظنَّ إصابة المفضول لم تمنعه من تقليد الأفضل ، فإن تساويا قلَّد من شاء منهما ، كما في المنتهى ونهاية الأحكام ، إلى غير ذلك من الأحكام المذكورة التي لا اعتبار بها ، بناء على ما ذكرناه ، ضرورة كون المدار فيه على الظنِّ المندرج به تحت التحرّي ، وتعمُّد القِبلة بحسب جهده من غير تقييد بظنٍّ مخصوص ، كما ذكرناه فيمن فرضه الاجتهاد ، بل قد عرفت أنَّ هذا قسم منه ، فلا فرق حينئذٍ بين العادل والفاسق ، والذكر والأنثى ، والصبي والبالغ ، والفاضل والمفضول ، والعدل والأعدل ، وغيرها ، بل يدور مدار الظنّ .

والخلاصة : أنَّ الأصحّ كون الأعمى من أفراد المجتهد الذي أمارته غالباً قول غيره ، فميزانه حينئذٍ بذل جدّه وجهده في تحصيل القِبلة من إخبار ، أو غيره ، فالمدار على الظنِّ الحاصل له بعد بذل الجهد الذي لم يصل إلى حدِّ العسر من غير فرق بين العادل والفاسق .

ومن هنا يتضح لك أنَّه لا وجه لاحتمال التخيير للأعمى بين ما ذكرنا وبين الصَّلاة إلى أربع جهات ، ضرورة كونه حينئذٍ ممَّن فرضه الاجتهاد ، فهو كغيره من أفراد المجتهدين الذي قد عرفت سابقاً أنَّه لا مجال لاحتمال التخيير فيهم ، والله العالم .

قوله : (والعامي إن أمكنه التعلم وجب)[2]

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (وفي معنى المكفوف العامي الذي لا أهلية عنده لمعرفة الأدلَّة ، لأنَّ فَقْد البصيرة أشدّ من فقد البصر ، وهذا اختيار الشَّيخ رحمه الله في المبسوط ، وفي الخِلاف صلَّى إلى الأربع ، وأطلق أبو الصَّلاح وجوب الأربع لِمَنْ لا يعلم الجهة ، ولا يظنّها وإن أمكنه التعلُّم وجب ... )[3] .

المعروف بين الأعلام أنَّ العامّي إذا كان ممَّن لا يستطيع التعلُّم ، بحيث إذا عُرِّف لا يعرف ، فيكون حكمه حكم الأعمى ، لأنّ فَقْد البصيرة أشدّ من فَقْد البصر .

ولكن قد أشكل بعض الأعلام إلحاقه بالأعمى ، لأنّ الرّجوع إلى غيره في الأعمى إنّما هو للأخبار الواردة في خصوص الأعمى .

وأمَّا العامّي الذي لا بصيرة له فلم يرد فيه شيء ، فإلحاقه بالأعمى قياس باطل ، خصوصاً مع الفارق بوجود حاسّة البصر وعدمه .

وأمَّا تعليله بأنَّ فَقْد البصيرة أعظم من فَقْد البصر ، فهذا لا يجعله مقطوعاً بالمِلاك حتَّى يكون من باب تنقيح المناط القطعي .

ولكنَ الإنصاف : أنَّ العامّي في فرضه الاجتهاد الحاصل له من قول غيره ، لأنَّ هذا هو المقدور من التحرِّي والاجتهاد بالنسبة إليه ، فيندرج في قوله عليه السلام المتقدِّم في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (يجزي التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة)[4] .

وفي قوله عليه السلام أيضاً في موثَّقة سماعة المتقدِّمة أيضاً (اِجتهد رأيك ، وتعمَّد القبلة جهدك) [5] ، فهو مثله مثل الأعمى في الرّجوع إلى غيره من حيث كونه تحرّياً واجتهاداً ، فيشتركان في الحكم ، لاشتراكهما في شمول دليل الاجتهاد ، وإنِ انحصر طريق الاجتهاد لهما في إخبار غيره .

قوله : (والأصحّ : أنَّه فَرْضُ عين)

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (والأقرب أنَّه من فروض الأعيان ، لتوقف صحَّة فرض العين عليه ، فهو كباقي شرائط الصَّلاة ، سواء كان يريد السَّفر أو لا ، لأنَّ الحاجة قد تُفرض بمجرد مفارقة الوطن ، ويحتمل كون ذلك من فرض الكفاية ، كالعلم بالأحكام الشرعيَّة ، ولندور الاحتياج إلى مراعاة العلامات ، فلا يكلَّف آحاد النَّاس بها ، ولأنَّه لم ينقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة بعده إلزام آحاد النَّاس بذلك ... )[6] .

والإنصاف : أنَّه من فروض الأعيان ، لكن يكفي للعامّي قول المجتهد ضعِ الجدي على منكبك الأيمن في العراق مثلاً ، ولا يجب عليه معرفة الدليل على كفاية ذلك من الإجماع ، أو الخبر ، أو البرهان ، أو الرياضي ، أو غيرها ، وأنَّه لا يجب ذلك إلَّا عند الخطاب بالصَّلاة الواجبة المتوقّف وجودها عليه كغيرها من الشرائط .

قوله : (ولو وجد العاجزُ مخبِراً عن علم ، وآخر عن اجتهاد ، عَدَل إلى الأوَّل)

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (لو وجد العاجز من يخبره عن علم ، وآخر عن اجتهاد ، رجع إلى الأوَّل ، لأنَّه أوثق) .

أقول : إذا كان المخبِر عن عِلْم مخبراً عن أمارة شرعيّة ، فيكون مقدماً على الآخر ، لِمَا ذكرناه سابقاً أنَّ الأمارة الشرعيَّة بحكم العلم ، وأمَّا إذا لم يكن كذلك فلا فرق حينئذٍ بين الأمرين .

قوله : (ولو وجد القادر على الاجتهاد مخبِراً عن علم أمكن الرّجوع إليه وإن منعناه من التقليد)

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى (ولو وجد القادر على الاجتهاد مخبِراً عن علم ، ففي جواز الاجتهاد وجهان ، وقطع بعض العامَّة بمنعه ، لأنَّ مثال الاجتهاد زايد ، لأنَّ غايته الظنّ والإخبار هنا عن القطع ، ووجه الجواز أنَّ قول غيره إنَّما يفيد الظنّ ، وهو خبر محتمل للأمرين في نفسه ، والظنّ باعتبار القرينة ، وأنَّ الظَّاهر صِدْق مخبره ، وذلك الظنّ مثله يحصل باجتهاده ، والفرق بَيِّن ، إذ الاجتهاد ظنّي في طريقه ، وغايته ، وإخبار المتيقّن ظنّي في طريقه ، لا في غايته) .

أقول : لا حاجة إلى هذه الأمور ، لِمَا عرفت أنّ الإخبار عن عِلْم إن كان إخباراً عن أمارة شرعيّة فهو بحكم العلم ، ويكون مقدَّماً على الاجتهاد ، وإلَّا فلا فرق بين الأخبار وبين اجتهاده .

وأمَّا قول المصنِّف رحمه الله : أمكن الرّجوع إليه وإن منعناه من التقليد ، باعتبار أنَّ الرّجوع إلى المخبر عن علم لا يدخل في التقليد ، بل الرِّجوع إليه من باب الإخبار ، وباب الإخبار مقدَّم على التقليد ، أي الأخذ بالقول غير الناشِئ عن الاجتهاد ، وقلنا سابقاً : إنَّ هذا نوع من الاجتهاد وإن سمّي تقليداً .

قوله : (ولوِ اجتهد فأخبره بخلافه ركن إليه)

لِمَا عرفت من أنّ الإِخبار عن علم إن كان عن أمارة شرعيّة فهو بحكم العلم ، ويكون مقدَّماً على الاجتهاد ، وإلَّا فلا فرق بين الأمرين ، كما تقدَّم .

قوله : (ولو أخبره مجتهد بخلافه عوَّل على أقوى الظنَّين ، وقِيل : على اجتهاد نفسه)

لا دليل على الأخذ بأقوى الظنَّين ، إذ كلّ منهما يصدق عليه التحرّي والاجتهاد .

والانصاف : أنه مخيَّر في هذا الفرض ، ولا حاجة إلى الإطالة في هذه الفروع التي قد علم حكمه سابقاً ، وكان الأجدر من المصنِّف رحمه الله أن يُعرض عنها.


[1] كشف اللثام، المحقق الإصفهاني، ج3، ص167.
[2] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص159.
[3] الذكرى، الشهيد الأول، ص164.
[4] وسائل الشّيعة، الشّيخ الحر العاملي، ج4، ص307، أبواب القبلة، باب6، ح1، ط آل البيت.
[5] وسائل الشّيعة، الشّيخ الحر العاملي، ج4، ص308، أبواب القبلة، باب6، ح2، ط آل البيت.
[6] الذكرى، الشهيد الأول، ص165.