الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/04/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القبلة

 

ويرد عليهم : أنّ كون مجموع ما بين المشرق والمغرب قبلة حتّى مع العلم أو الظنّ بكون الكعبة في جزء معين ، مع مخالفته لظاهر الآية ، والأخبار الدّالة على أنّ الكعبة هي القبلة ، وأنّ الله تعالى لا يقبل من أحد التوجّه إلى غيرها ، خلاف ما أجمع عليه الأصحاب قديماً وحديثاً ، وقولاً وعملاً ، منهم ومن مقلّدتهم في سائر الأعصار والأمصار ، بل لعلّ ما ذكروه خلاف الضّرورة من الدّين من استقبال الكعبة للقريب والبعيد الذي لا يتحقّق عرفاً إلّا باستقبالها حقيقة الذي منه استقبال الجهة بالمعنى الذي ذكرناه في الأمر الثاني - وسيأتي أيضاً إن شاء الله - لا الجهة العرفية المبنية على التسامح وعدم الاستقبال حقيقة .

وأما التمسّك بالسيرة فهو غريب ، إذ لم يُعهد من أحد من المسلمين التساهل في أمر القبلة إلى هذا الحد .

وبالجملة ، سهولة الملة وسماحتها لا تقتضي التساهل في احكامها المستفادة من خطاباتها التي مدار التكليف عليها ، فإنَّ ذلك في الحقيقة تسامح وتساهل فهيا ، لا أنَّها هي سمحة وسهلة .

ونصوص ما بين المشرق والمغرب يُراد منها - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - خصوص المخطِئ والمتحيِّر ، وإلّا كانت مخالفةً للضرورة من المذهب .

والإنصاف في تعريف الجهة : ما ذكرناه سابقاً في الأمر الثاني من أنّ استقبال جهة الكعبة متوقّف على حضور المقابلة له من المستقبل .

نعم ، لا يُعتبر في الصّدق المزبور وقوع خطّ المستقبل حال استقباله على المستقبَل - بالفتح - مطلقاً ، ضرورة تحقّقه عرفاً في المشاهد من الأجرام ، وإن قطعنا بعدم اتِّصال الخطوط بها .

وبالجملة ، فلا يُعتبر في صدق الاستقبال عرفاً المحاذاة الحقيقية ، بحيث لو خرج خطّ مستقيم من مقاديم المستقبل قائم على خطّ خارج من يمينه وشماله لوقع على الكعبة ، بل أعمّ من ذلك ، فإنّ صدق الاستقبال ممَّا يختلف بالنسبة إلى القريب والبعيد ، فإنّك إذا استقبلت صفّاً طويلاً بوجهك ، وكنت قريباً منهم جدّاً لا يكون قبلتك من أهل الصفّ إلّا واحد منهم بحيال وجهك ، ولكنّك إذا رجعت القهقرى بخطٍّ مستقيم إلى أن بعدت منهم مقدار فرسخ مثلا لرأيت مجموع الصفّ بجملته بين يديك ، بحيث لا تميّز من يحاذيك حقيقة عن الآخر ، مع أنّ المحاذاة الحقيقيّة لا تكون إلّا بينك وبين ما كانت أوّلاً .

وعليه ، فالأمر باستقبال الكعبة في الصّلاة ليس إلّا كالأمر بالتوجّه إلى قبر الحسين عليه السلام من البلاد النائية في بعض الزيارات المأثورة ، أو إلى قبر النبي (صلى الله عليه وآله) في بعض الزيارات والأعمال .

ومن الواضح أنّه لا ينسبق إلى الذهن من ذلك إلّا إرادة الجهة التي علم باشتمالها على القبر الشريف ، فمتى أُحرز أنّ المدينة في ناحية القبلة ، كما في بلادنا بلاد الشام ، يتوجه إليها بالمعنى الذي ذكرناه ، ويأتي بذلك العمل الذي ورد فيها الأمر باستقبال قبر النبي (صلى الله عليه وآله) ، كما أنَّه يزور الحسين عليه السلام من كان في بلاد الشام متوجّهاً نحو الشرق بالمعنى الذي ذكرناه للجهة .

وممَّا يؤيِّد ما ذكرناه : أنّ الشّارع المقدّس لم يقصد بقوله : أينما كنتم فولّوا وجوهكم شطره ، أي شطر المسجد تكليفاً يتوقّف إحراز موضوعه على استعمال القواعد المبيّنة في علم الهيئة ونحوها ، ضرورة عدم ابتناء أمر القبلة على علم الهيئة ، بل ولا على العلائم المذكورة في كتب الأصحاب ، فإنّ أغلبها علائم تقريبيّة استنبطها الأصحاب بحسب ما أدّى إليه نظرهم ، ولم يكن تشخيص القِبلة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) ، والأئمة عليهم السلام ، متوقِّفاً على هذه العلائم ، فالمقصود بهذا التكليف ليس إلّا التوجّه إلى جانبه على الوجه الذي يتمكّن كلّ مكلّف من تشخيصه عادةً من غير حرج ومشقّة ، بالطرق المعهودة لدى العقلاء في تشخيص جانب سائر البلاد .

وممَّا يؤيِّد ما ذكرناه ، بل يدلّ عليه : أنّ العلائم الآتية التي بينها الأعلام وعوّلوا عليها في فتاواهم من غير نكير لا يشخّص بها إلّا الجهة بالمعنى الذي ذكرناه ، فإن أوضحها وأضبطها التي تتطابق عليها النصّ والفتوى هو الجدي الذي ورد الأمر بوضعه على قفاك ، كما في رواية محمّد بن مسلم الآتية ، مع أنَّها ضعيفة السَّند - كما سنذكره - ومن الواضح أنَّه لا يميّز به إلَّا الجهة الذي ذكرناه ، فإنَّ غاية ما يمكن ادعاؤه إنَّما هو تنزيل الرِّواية على البلاد المناسبة لها .

وممَّا يؤكِّد المطلب أيضاً : ترك النبي (صلى الله عليه وآله) ، والأئمة الأطهار عليهم السلام التعرّض لبيان ضابط لبلادهم ، فضلاً من غيرها من البلاد النائية ، مع كونه من أهمّ المهمات ، وترك أصحابهم التعرّض لأمرها بالسّؤال عنها ، مع أنَّهم لم يزالوا كانوا يسألون كثيراً ممَّا لا يحتاجونه إلَّا على سبيل الفرض ، فيكشف ذلك عن أنَّهم كانوا يكتفون في معرفة القبلة بالطرق المقرَّرة عندهم لتشخيص جهات سائر البلاد عند إرادة السير إليها .

ثمّ لا يخفى عليك أنّ العلائم تختلف من حيث إفادة القطع بالجهة أو الظنّ ، فمحراب المعصوم - الذي هو دليل على الجهة لا عين الكعبة ، ضرورة عدم معقوليّة دلالته عليها بالخطوط المستوية ، مع اشتراك الأقليم الواحد بها ، ممَّا يقطع بعدم مقابلته العين حقيقةً ، لسِعة عرضه عليه أضعافاً متعدِّدة - يفيد القطع بالجهة ، لمنافاة الخطأ في ذلك ، للعصمة ، وغير المحراب من العلائم يفيد الظنّ بها ، لاحتمال الخطأ في تحصيل القبلة المقابلة بها .

وقدِ اتّضح بما ذكرنا : أنّه لا بأس بالرجوع إلى قواعد الهيئة ، كما أنّه لا بأس بتقليد أهلها في ذلك ، وقد يستفيد الماهر فيها العلم بالاستقبال ، كما أنّه لا ريب في حصول الظنّ به منها ، بل الظّاهر أنّه أقوى من غيره ، ولذا عوّل أصحابنا عليها ، فمن الغريب دعوى عدم استفادة شيء من العلم أو الظنّ من كلامهم ، مع أنّ أكثره ثابت بالبراهين القطعيّة ، والدلائل الهندسيّة التي لا يتطرّق إليها شبهة ، وعدم الوقوق بإسلامهم ، فضلاً عن عدالتهم ، لا يمنع من حصول الظنّ ، كما لا يمنع من حصوله في غيره من اللغة والصرف والنحو والطبّ ، وغير ذلك الذي من المعلوم ضرورة الرجوع إليه ، وليس المراد التقليد في الحكم الشرعي المشترط فيه الإسلام والعدالة ، بل المراد حصول الظنّ الذي لا ينبغي إنكاره ، والله العالم بحقائق أحكامه .

قوله : (ولو صلَّى فوقها أبرز بين يديه منها قليلاً ، ولا يحتاج إلى شاخص)[1]

 

ذكرنا هذه المسألة بالتفصيل في درس الواحد والثلاثين عند قول الماتن : (وكذا تُكره على سطحها ... ) ، وبيّنا أنّه لا يحتاج أن ينصب بين يديه شيئاً منها حال الصّلاة ، كأنّ يجعل بين يديه سترة من نفس البناء وغيره ، وذلك لأنّ القبلة هي الفضاء إلى السّماء ، فراجع ، فإنّه مهمّ .

قوله : (والمصلّي على جَبْلِ أبي قُبَيْس يستقبل جهتها في العلوّ)

بلا خلاف بين الأعلام ، والمراد بالجهة هنا الفضاء الذي وقعت الكعبة فيه من تخوم الأرض إلى عنان السّماء ، لا الجهة بالمعنى الذي تقدّم .

وممّا يدلّ على أنّه يستقبل جهتها في العلو - مضافاً للتسالم بين الأعلام - : رواية عبد الله بن سنان المتقدّمة عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : سأله رجل ، قال : صلّيت فوق أبي قُبَيْس العصر ، فهل يجزي ذلك ، والكعبة تحتي ؟ قال : نعم ، إنّها قِبلة من موضعها إلى السّماء)[2] ، ولكنّها ضعيفة ، لأنّ في إسناد الشّيخ الطاطري رحمه الله أحمد بن عمرو بن كيسبة ، وهو غير مذكور في الرّجال ، وفيه أيضاً علي بن محمّد بن الزبير القرشي ، ولكنّه من المعاريف عندنا .

وقدِ استُدلّ أيضاً : بصحيحة خالد بن إسماعيل (قال : قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام : الرّجل يصلّي على أبي قُبَيْس مستقبل القبلة ، فقال : لا بأس)[3] .

قوله : (ولو خرج صفّ المأمومين عن السّمت مع المشاهدة بطلت صلاة من خرج)

لا خلاف في بطلانها ، سواء قربوا من الكعبة الشريفة ، أم بعدوا ، لمّا تقدّم من اعتبار مقابلة عين الكعبة الشّريفة عند مشاهدتها حقيقةً أو حكماً .

قوله : (ولو استداروا حولها صحّت ، لكن ينبغي أن يكون المأموم مساوياً في القرب إليها لإمامه ، أو أبعد منه)

إذا اجتمعت شرائط الجماعة صحّت الصّلاة بالإجماع ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والاستدارة بحدّ ذاتها ليست مانعة من الصحّة ، وسنذكر ذلك إنّ شاء الله في مبحث الجماعة .

قوله : (ولو صليَّا داخلها ، واستدبر أحدهما صاحبه ، أمكن الصحّة إذا علم أفعاله وشاهده ، ولو في بعض الأحيان)

يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى - في باب صلاة الجماعة.


[1] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص158.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج4، ص339، أبواب القبلة، باب18، ح1، ط آل البیت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج4، ص339، أبواب القبلة، باب18، ح2، ط آل البیت.