الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/02/26

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : أحكام المساجد
ثمّ إنّه يظهر من هذه الرّواية، ومن بعض الرّوايات المتقدّمة، والتي منها صحيحة محمّد بن مسلم، اختصاص الكراهة بما إذا ظهر من فمه رائحتها الكريهة، فلو عُولجت بطبخ، ونحوه، بحيث ذهبت رائحتها، أو أكل بعدها شيئاً قطع ريحها، ارتفعتِ الكراهة .
 وعليه، فما احتمله بعض مِن تعلَّق الكراهة بأكل ذوات هذه البقول وإن ذهبت رائحتها، لبعض الإطلاقات، في غير محلِّه، وذلك لتعيّن صرفها عن ذلك، بقرينة ما عرفت، لو لم نقل بانصرافها في حدّ ذاتها عنه .
 لا يقال : إنّ ظاهر النهي الوارد في أغلب الرّوايات هو الحرمة .
 فإنّه يُقال : لا بدّ من حمله على الكراهة، لاستقرار سيرة المتشرعة على عدم التزامهم بترك حضور المساجد إذا كان في فمهم رائحة شيء من هذه المؤذيات، وعدم كونه لديهم من المنكرات .
 وبالجملة، فلو كان دخول مَنْ في فمه رائحة شيء من هذه المؤذيات، كدخول الجنب والحائض، من المحرمات الشرعيّة، لصار بواسطة عموم الابتلاء به من المسلمات، فضلاً عن أنْ يشتهر خلافه بين المسلمين .
 بقي شيء في المقام، وهو أنّه يظهر من بعض النصوص استحباب إعادة الصّلاة، مع أكل الثوم ذي الرائحة، فضلاً عن كراهة دخول المسجد، كصحيحة زرارة (قال حدثني من أصدق من أصحابنا أنّه سأل أحدهما عليهما السلام عن ذلك - يعني : الثوم - فقال : أعد كلّ صلاة صلّيتها ما دمت تأكله )[1]، إذ من المعلوم عدم إرادة الوجوب للنصوص الأخر، والتسالم بين الأعلام، على أنّ أكل هذه الأشياء لا يوجب إعادة الصّلاة .
 والمراد من قوله عليه السلام : (أعد كلّ صلاة صليتها ما دمت تأكله)، أي : أعد كلّ صلاة صلّيتها ما دام بقاء أثر الثوم في فمك، وليس المراد إعادة الصّلاة الواقعة حال تشاغله بأكل الثوم، وإلّا فلا يختصّ ذلك بأكل الثوم، بل مطلق أكل الطعام، والله العالم .
قوله : (ويستحبّ كنسها)
ما ذكره المصنِّف رحمه الله في غير محلّه، إذ كيف يكون تركها مستحبّاً، وفعلها مكروهاً ؟!
 وعليه، إمّا أن يكون الترك مستحبّاً، أو أنّ الفعل مكروه، وذلك لِمَا ذكرناه في علم الأصول من أنّ الاستحباب ناشئ عن مصلحة في متعلّق الحكم، والكراهة ناشئة عن مفسدة في متعلّقه، وهذا هو الميزان في التفرقة بينهما .
 وليس الميزان وجود الأمر أو النهي، إذ قد يكون الأمر تعلّقاً بترك شيء، ولكن هناك مفسدة في الفعل .
 وعليه، فيكون الفعل مكروهاً، وإن ورد بصورة الأمر .
 كما أنّه قد يكون في الترك مصلحة مع ورود النهي عن الفعل، فيكون حينئذٍ الترك مستحبّاً، وإن ورد ذلك بصورة النهي .
 وبناءً على هذه القاعدة عليك أن تميِّز المستحب من المكروه في الأمور المتقدّمة، والله العالم بحقائق أحكامه .
قوله : (والإسراج فيها)
 هذا هو المعروف بين الأعلام، بل هناك تسالم بينهم، وكنسها بمعنى : جمع كُنَاستها - بضم الكاف - وإخراجها .
 وعُلِّل ذلك : بأنّ فيه تعظيماً لشعائر الله .
 وفيه أيضاً : ترغيب المتردّدين المؤدِّي ذلك إلى عدم خرابها .
 وقد استدلّ أيضاً : برواية سلام بن غانم عن الصّادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام (أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : من قمّ مسجداً كتب الله له عتق رقبة، ومن أخرج منه ما يقذّي عيناً كتب الله عزوجل له كفلين من رحمته)[2]، ولكنّها ضعيفة في الأمالي، وفي المحاسن بسلام بن غانم، فإنّه مجهول .
 والكِفْل وزان حِمْل : الضِعف من الأَجْر .
 وذكر الأعلام أنّه يتأكّد استحباب الكنس يوم الخميس، وليلة الجمعة، وذلك لرواية عبد الحميد عن أبي إبراهيم (قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : مَنْ كنس المسجد يوم الخميس، وليلة الجمعة، فأخرج منه من التراب ما يُذرّ في العين غفر الله له)[3]، ولكنّها ضعيفة بسهل بن زياد، وبجهالة عبد الله الدّهقان، وبجعفر بن بشار، فإنّه مهمل .
 ثمّ إنّ الرّواية على هذه النسخة من الوسائل لا يوجد فيها (واو) قبل ليلة الجمعة، فيكون المراد الكنس في أحد الوقتين .
 ورواها الشهيد الثاني رحمه الله في الروض، وكذا صاحب المدارك رحمه الله : بالواو، بجعلها بمعنى (أو) كما صرَّحَا به فيهما، فيكون المراد حينئذٍ أحد الوقتين أيضاً .
 واحتمل بعضهم : بقاء (الواو) على ما هي عليه، أي : إنّها للجمع، فيتوقّف حصول الثواب المعيّن على الكنس يوم الخميس وليلة الجمعة معاً، ولكنّه بعيد عن ظاهر الرّواية .
 ثمّ إنّ التقدير بما يذرّ في العين، مبالغة في المحافظة على كنسها، وإن كانت نظيفة، أو على فعل ما تيسّر من ذلك .
قوله : (وكثرة الاختلاف إليها)
وقد استُدلّ لذلك بما رواه أنس (قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : مَنْ أسرج في مسجد من مساجد الله سراجاً لم تزل الملائكة، وحملة العرش، يستغفرون له، ما دام في ذلك المسجد ضوء من ذلك السراج)[4]، ولكنّها ضعيفة ببعض الأشخاص، وجهالة البعض الآخر، ورواه الصّدوق رحمه الله في الفقيه والمقنع مرسِلاً، ورواه في ثواب الأعمال مسنداً، ورواه البرقي في كتاب المحاسن مرسلاً .
 وبالجملة، فالرّواية ضعيفة بجميع طرقها .
 ثمّ إنّه مع قطع النظر عن ضعف السّند ظاهر الرّواية عدم اشتراط تردّد أحد من المصلّين إليه، ولا إمكانه في مشروعيّة الإسراج، كما صرّح به في الرّوض، وغيره .
 ثمّ لا يخفى عليك أنّه لا يشترط إذن الناظر إذا كان ما يُسرج به ليس من مال المسجد .
 نعم، لو كان منه اعتبر ذلك، ولو لم يكن للمسجد ناظر معين، وتعذّر استئذان الحاكم، لم يبعد جواز تعاطي ذلك لعدول المسلمين .


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج25، ص216، باب128 من أبواب الأطعمة المباحة ح8، ط آل البيت (ع) .
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج 5، ص239،  باب32 من أبواب الأطعمة المباحة ح2، ط آل البيت (ع) .
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص238،  باب34 من أبواب الأطعمة المباحة ح1، ط آل البيت (ع) .
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج 5، ص241،  باب34 من أبواب الأطعمة المباحة ح1، ط آل البيت (ع) .