الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/01/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مكانُ المصلِّي

ولكنّ الإنصاف : أنّ الرّوايات الناهية عن الصّلاة على الثَّلْج محمولة على الكراهة ، ويكون السُّجود على شيءٍ يصحّ السُّجود عليه ، بل لعلّك لا تجد مَنْ يقول : بالحرمة ، إذ لو كان المانع من الصّلاة على الثَّلْج منحصراً في أنّ الثَّلْج ممَّا لا يصحّ السّجود عليه لم يكن ذلك مقتضياً للنهي عن طلب التّجارة في تلك الأراضي ، بل كان مقتضياً لأن يأمره بأن يتّخذ معه شيئاً ممّا يصحّ السّجود عليه من تربةٍ أو حجارةٍ ، ونحوها ، فلعل حكمة الحكم بالكراهة عدم التمكّن من كمال الاستقرار ، أو عدم حصول التوجّه والإقبال لما يجده من ألم البرد .

وأمَّا الأخبار الناهية عن السّجود على الثَّلْج فيُحمل النهي فيها عن الصلاة على الثَّلْج فيكون إطلاق السّجود عليها من قبيل إطلاق الرقبة على الإنسان .

ولا بأس بهذا الحكم إلَّا من حيث التجوَّز بإطلاق السّجود على الصّلاة ونظائره في الأخبار كثيرة ، لا سيّما أخبار (جعلتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، أي مصلّى وغيرها ، والله العالم .

قوله : (والرمل المنهال لا الملبّد)[1]

لم يذكر هذا المكروه أغلب الأعلام لعدم الدليل عليه .

نعم ، لما ذَكَر المصنّف رحمه الله في الذكرى كراهة الصّلاة في الأرض السّبخة ، قال : (وفي حكمها في الكراهية الرمل المنهال ، أمّا لملبّد فلا بأس)[2] .

وفيه : لا يخفى .

قوله : (وفي بيت فيه خمر ، أو مسكر)

ذكر الأعلام أنّه تكره الصّلاة في بيوتِ الخمر إذا لم تتعدَ إليه نجاستها ، وهذا العنوان صادق على ما ليس فيه خمر أو مسكر بالفعل ، كما أنّه يصدق بلا إشكال على ما فيه ذلك .

ولكن المصنِّف رحمه الله جعل العنوان (بيت فيه خمر ، أو مسكر) ، وعنوانه هذا لا تشمل بيت الخمر والمسكر مع عدم وجود الخمر والمسكر فيه فعلاً ، وما فعله المصنّف رحمه الله هو الأقرب والأصحّ ، لأنّ المستند في المسألة هي موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام ، حيث جعل العنوان فيها عين ما ذكره المصنّف رحمه الله ، قال عليه السلام : (لا تصلّي في بيتٍ فيه خمر أو مسكر ، لأنّ الملائكةَ لا تدخله ، ولا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر ، حتى تغسله)[3] .

ولا يخفى أنّ الحكم في الرّواية لا يشمل البيت الذي أُعدّ للخمر والمسكر مع عدم وجودهما فعلاً فيه ، فلا دلي ل حينئذٍ على كراهة الصّلاة فيه .

ومهما يكن فقدِ استُدل للكراهة أيضاً بمرسلة المقنع قال الصّدوق رحمه الله فيه (قال : لا يجوز أن يصلّي في بيتٍ فيه خمر محصور في آنية)[4] ، ولكنّها ضعيفة بالإرسال .

ولا يخفى أنّ النهي فيهما محمول على الكراهة ، لا سيّما في موثّقة عمّار ، حيث علّل ذلك بأنّ الملائكة لا تدخله ، وهذا أمارة الكراهة .

ويؤيِّده : إعراض معظم الأصحاب عن ظهوره في التحريم ، مضافاً لِمَا رواه الشّيخ الصّدوق رحمه الله في المقنع حيث قال - بعد رواية المنع - : (ورُوي أنّه يجوز)[5] ، وإنّما جعلناها مؤيّدة لأنّها ضعيفة بالإرسال .

هذا ، وقد حُكي عن الشّيخ الصدوق رحمه الله في الفقيه والمنقع : المنع من الصّلاة في بيتٍ فيه خمر ، أو مسكر ، وحكي أيضاً عن المقنعة والنهاية والمراسم ، والموجود في عبارة الصّدوق رحمه الله والمقنعة والنهاية والمراسم : (لا يجوز) ، وهذه العبارة قابلة للحمل على الكراهة .

على أنّه يستبعد جدّاً من الشّيخ الصّدوق رحمه الله إرادة الحرمة منع تجويزه الصّلاة في الثوب الذي فيه الخمر لطهارته عنده ، لا سيّما إذا كان مستند المنع عنده الموثّقة المتقدّمة ، إذ هي كما تدلّ على المنع عن الصّلاة في بيت فيه خمر أو مسكر ، كذلك تدلّ على نجاسة الخمر ، حيث ورد في الذيل : (ولا تصلّ في ثوبٍ قد أصابه خمر أو مسكر حتّى تغسله) ، مع أنّه قد ذهب إلى طهارة الخمر ، فالتفكيك بين الصدر والذيل بالأخذ بالأوّل ، وعدم الأخذ بالثاني ، وإن كان أمراً متعارفاً إذا اقتضاه الدليل ، إلّا أنّه في حدّ نفسه مستبعد ، كما لا يخفى .

قوله : (أو مجوسي)

تقدّم الكلام عن كراهة الصّلاة في بيوتِ المجوس عند قول المصنّف رحمه الله : (وبيوت المجوس) ، ولكنّ الكلام هنا عن كراهة الصّلاة في بيتٍ فيه مجوسي ، إن لم يكن بيته ، بل من حيث مجرد حضوره فيه ، وأمّا بيته فقد تقدّم الكلام عنه ، كما عرفت .

وقد يستدلّ للحكم برواية أبي أسامة عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : لا تصلّ في بيتٍ فيه مجوسي ، ولا بأس بأن تصلّي وفيه يهودي أو نصراني)[6] ، ولكنّها ضعيفة بأبي جميلة .

قوله : (وإلى مصحف منشور)

هذا هو المعروف بين الأعلام ، وفي الجواهر : ( على المشهور نقلاً وتحصيلاً ... ) .

أقول : قدِ استُدل لذلك بموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : قلتُ : في الرّجل يصلّي وبين يده مصحف مفتوح في قِبلةٍ ، قال : لا ، قلت : فإن كان في غلاف ؟ قال : نعم ... )[7] ، والنهي محمول على الكراهة ، إذ النهي في أمثال هذه الأمور لا يناسبه إلّا الكراهة ، بمعنى أقليّة الثواب .

ويؤيِّده : الشهرة العظيمة بين الأعلام على الكراهة .

ويؤيِّده أيضاً : ما في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جدِّه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام (قال : سألتُه عن الرّجل هل يصلح له أن ينظر في نقشِ خاتمه وهو في الصّلاة ، كأنه يريد قراءته ، أو في المصحف ، أو في كتابٍ في القبلة ؟ قال : ذلك نقص في الصّلاة وليس يقطعها)[8] ، ولولا ضعفها سنداً بعبد الله بن الحسن فإنّه مهمل لكانت صريحةً في الكراهة ، إذ لا يعني بها إلّا اشتمال الصّلاة على ما يوجب نقصها .

ومع قطع النّظر عن ضعف السّند فهي تدلّ على عدم اختصاص الحكم بالمصحف ، وتدلّ على كراهة النّظر إلى ما عداه أيضاً من كتابٍ أو نقشِ خاتم ، ونحوه .

ومن هنا قال المصنِّف رحمه الله في البيان عاطفاً على مصحف مفتوح ، أو كتابٍ مفتوح .

ويستفاد من هذه الرّواية أيضاً أنّ كراهة النّظر إلى المكتوب ، والمنقوش ، ليست مطلقةً ، بل يُقتصر فيها على النّظر إليه كأنّه يريد قراءته .

وأمّا مجرد وجوده بين يديه فلا يكاد يفهم كراهته من هذه الرّواية ، ولذا لا كراهة مع العمى والظلمة ، ونحوهما مما لا نظر معها .

والذي يهوِّن الخطب : أنّ الرّواية ضعيفة السند .

وأمّا موثّقة عمّار فمقتضى إطلاقها هو كراهة كون المصحف مفتوحاً في قبلته ، سواء نظر إليه ، أم لا ، بل حتّى لو تعذّر في حقّه النّظر إليه لظلمةٍ ، أو عمى ، ونحوه ، والله العالم .

قوله : (أو باب مفتوح)

ذهب إليه أكثر الأعلام ، وحُكي عن الشهيد الثاني رحمه الله الشّهرة ، بل عن الروض ومجمع البرهان نسبته إلى الأصحاب ، ولكنْ اعترف أغلب الأعلام بعدم الدّليل على الكراهة حتّى أنّ المحقّق رحمه الله لمّا نسب القول بذلك إلى الحلبي قال : (وهو أحد الأعيان ، فلا بأس باتباعه)[9] .

ويُستفاد منه وغيره : أنّه يكفي في الحكم بالكراهة فتوى أحد الأعلام بها ، وبذلك يكون قد عمّموا القول بالتسامح في أدلّة السنن والمكروهات إلى فتاوى الأعلام ، ولم يقتصروا على الأخبار الضعيفة .

وعلَّق صاحب الحدائق رحمه الله على كلام المحقّق رحمه الله بقوله : (وأمّا كلام المحقّق هنا فلا يخفى ما فيه ، سيّما مع ما علم من مناقشته للشّيخ وأمثاله في طلب الأدلّة ، وصحتها ، متّى لم يصلّ إليه الدليل ، بل يناقشهم مع وجود الأدلّة بزعم ضعفها ، ولم نره يعتمد على مجرد التقليد ، وحُسْن الظنّ ممّن تقدّمه من الأعيان إلّا في هذا المكان)[10] ، وهو جيد .

قوله : (أو إنسان مواجه)

ذكره جماعة من الأعلام ، بل في المسالك والروضة أنّه المشهور .

وقد يُستدلّ له برواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام (قال : سألتُه عن الرّجل يكون في صلاته هل يصلح أن تكون امرأة مقبلة بوجهها عليه في القبلة قاعدة ، أو قائمة ، قال : يدرؤها عنه ، فإن لم يفعل لم يقطع ذلك صلاته)[11] ، ولكنّها ضعيفة بعبد الله بن الحسن ، فإنّه مهمل .

ومورد الرّواية ، وإن كان أخصّ ممّا ذكره الأعلام ، إلّا الظّاهر أنّه لا خصوصيّة للمرأة توجب قصر الحكم عليها .

وقد يستدلّ أيضاً برواية دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد عليه السلام (أنّه كره أن يصلّي الرّجل ، ورجل بين يديه قائم ... )[12] ، وهي ضعيفة بالإرسال .

قوله : (أو حديد)

ذكره جماعة من الأعلام .

ويدلّ عليه : موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديثٍ - (قال : لا يصلّي الرّجل وفي قبلته نار ، أو حديد ... )[13] ، فإنّ النهي ، وإن كان ظاهراً في الحرمة ، إلّا أنّه لم يذهب أحد من الأعلام إلى حرمة الصّلاة إذا كان في قبلة المصلي حديد ، فيكونون قد أعرضوا عن ظاهرها ، وهذا قرينة على كون النهي محمولاً على الكراهة .

قوله : (أو نار ، ولو سراجاً ، أو مجمرة)

المعروف بين الأعلام كراهة ذلك ، وفي الجواهر : (بل هو المشهور نقلاً إن لم يكن تحصيلاً ... )[14] .

أقول : قد استدلّ لذلك ببعض الأخبار :

منها : صحيحة علي بن جعفر عن أبي الحسن عليه السلام (قال : سألتُه عن الرّجل (هل يصلح أن خ ل) يصلّي والسّراج موضوع بين يديه في القبلة ؟ قال : لا يصلح له أن يستقبل النار)[15] .


[1] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص154.
[2] الذكرى، الشهيد الأول، ص152.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج3، ص470، أبواب النجاسات، باب38، ح7، ط آل البیت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص153، أبواب مكان المصلي، باب21، ح2، ط آل البیت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص153، أبواب مكان المصلي، باب21، ح3، ط آل البیت.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص153، أبواب مكان المصلي، باب16، ح1، ط آل البیت.
[7] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص163، أبواب النجاسات، باب27، ح1، ط آل البیت.
[8] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص163، أبواب النجاسات، باب27، ح2، ط آل البیت.
[9] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج8، ص398.
[10] الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني (صاحب الحدائق)، ج7، ص238.
[11] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص189، أبواب مكان المصلي، باب43، ح3، ط آل البیت.
[12] مستدرك الوسائل، المحدث النوري، ج5، ص332، أبواب مكان المصلّي، باب4، ح2.
[13] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص166، أبواب مكان المصلي، باب30، ح2، ط آل البیت.
[14] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج11، ص430.
[15] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص166، أبواب مكان المصلي، باب30، ح1، ط آل البیت.