الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/01/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مكانُ المصلِّي

والخلاصة : أنّ حَمْل موثّقة عمّار على الكراهة أنسب بحسب القواعد ، خصوصاً مع مخالفة ظاهرها للمتفق عليه ، حيث لم ينقل القول بحرمة الصّلاة فيما بين القبور عن أحد ، إلّا عن الديلمي .

الجهة الثانية : كراهة الصّلاة على القبر .

ويدلّ على ذلك جملة من الأخبار :

منها : حسنة زرارة[1] المتقدّمة ، إذ الظّاهر أن تخصيص نفي البأس بما بين خللها للاحتراز عن الصّلاة على القبر ، واتخاذه مسجداً ، كما يشهد لذلك التعليل بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

ومنها : مرسلة عبد الله بن الفضل المتقدّمة[2] أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام ، باعتبار أنّ المراد بالقبور الواقعة فيها هو الجنس ، فيعمّ الواحد والإثنين ، لا الجمع كي يُشكل الاستدلال به للمقام ، ولكنّها ضعيفة بالإرسال ، كما عرفت .

ومنها : رواية يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه السلام (أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى أن يصلّى على قبر ، أو يقعد عليه ، أو يُبنى عليه)[3] ، وهي ضعيفة بيونس بن ظبيان .

الجهة الثالثة : الصّلاة إلى القبر .

ويدلّ على كراهتها صحيحة معمر بن خلاد ، وحسنة زرارة ، المتقدّمتان .

وعن الشيخ المفيد والشيخ الصّدوق والحلبي (قدس الله أسرارهم) : القول بالحرمة ، قوَّاه صاحب الحدائق رحمه الله ، لِمَا في الصحيحة ، والحسنة ، من النهي عن اتّخاذ القبر قبلةً ، فيقيَّد بهما إطلاقُ صحيحتي عليّ بن جعفر وعلي بن يقطين المتقدّمتَيْن النافيتَيْن للبأس عنه مطلقاً .

وفيه أوّلاً : أنّ تقييد إطلاق نفي البأس عن الصّلاة بين القبور بما إذا لم يكن شيء منها مقابلاً له ، وأمامه ، مستلزم لتخصيص الأكثر ، إذ قلّ ما يتفق ذلك عند الصّلاة فيما بين القبور ، إلّا إذا صلى في ناحيتها من طرف القبلة .

وثانياً : أنّ صحيحة معمر قاصرة عن إفادة الحرمة ، لأنّ غاية مفادها ثبوت البأس عند اتّخاذ القبر قبلةً ، وهو أعمّ من الكراهة .

نعم ، حسنة زرارة ظاهرة في الحرمة للنهي عن اتّخاذ شيء من القبور قبلةً ، وهي صريحة في مشاركة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) مع سائر القبور ، وإنّ علّة النهي عن اتّخاذ قبره قبلةً هي نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن اتّخاذ قبره قبلةً ، فتقع المعارضة بين هذه الحسنة - بناءً على دلالتها على الحرمة - وبين الأخبار الكثيرة الدّالة على جواز الصّلاة خلف قبور الأئمة عليهم السلام ، والتي سنذكرها - إن شاء الله تعالى - في الأمر الثاني .

هذا ، وقد ذهب صاحب الحدائق رحمه الله إلى تخصيص صحيحة معمر بن خلاد ، وحسنة زرارة ، بهذه الأخبار الكثيرة ، والتزم بأنّ الجواز من خصائص قبور المعصومين عليهم السلام ، لِمَا فيها من زيادة شرف .

وفيه : أنّ العمدة في القول بالحرمة هي حسنة زرارة ، وهي نصّ في ثبوت الحكم لقبر النبي (صلى الله عليه وآله) ، وكونه الأصل فيه ، واحتمال اختصاص الجواز بقبور الأئمة عليهم السلام ، دون قبر النبي (صلى الله عليه وآله) بعيد جدّاً ، خصوصاً مع شذوذ أصل القول بالحرمة ، ومخالفة هذا التفصيل للإجماع ، حيث إن الشيخ المفيد رحمه الله ، وغيره ممّن حكم بالحرمة لم يفصّل بين قبر المعصوم وغيره .

وقد يجاب أيضاً عن الاستدلال بصحيحة معمر بن خلاد ، وحسنة زرارة : بأنّ معنى اتّخاذ القبر قبلةً المعاملة معه معاملة القبلة بالتوجّه إليه من أيّ جهةٍ تكون ،كما قد يفعله بعض الجهلة بالنسبة إلى قبور الأئمة عليهم السلام ، وهذا مما لا شبهةَ في حرمته .

والخلاصة : أنّه لا ريبَ في أنّ الكراهة هي الأقوى في الجميع ، أي : بين القبور وعليها وإليها .

ولكن يبقى الكلام في تحقيق مصداق البينيَّة في القبور الذي هو موضوع الحكم في النصوص .

أمّا القبر الواحد ، والقبران : فقد ألحقهما جماعة بالقبور ، بل عن الروض نسبته إلى الأصحاب .

وقال في البحار : إن مستنده غير واضح .

أقول : إن كان هذا الإلحاق بالنسبة إلى الصلاة خلف القبر فإنّه صحيح ، لأنّ الحكم معلّق باستقبال القبر ، ولا يُشترط فيه التعدّد ، وإن كان بالنسبة إلى الصّلاة على القبر فكذلك ، وإن كان بالنسبة إلى البينيّة فلا إشكال في تحقّقها إذا كان بين قبورٍ متعدّدة .

وأمّا القبران : فلا ريب في تحقّق البينية بهما ، حيث يكونان على اليمين والشّمال ، أو الأمام والخلف .

واحتمال كون المراد ببينيّةِ قبورٍ كون ما على جهة اليمين مثلاً أقلّ جمعٍ ، والشّمال كذلك : فينفيه إرادة الاستغراق من الجمع المنسلخ منه معه معنى الجمعية ، ولولا لفظ البينيّة لاجتزأنا بالواحد ، لكن معها يجب إرادة مصداقها في أفراد القبر ، ولا ريب في تحقّقه هنا بالإثنين ، بعد القطع بعدم إرادة البينيّة بالنسبة إلى جميع القبور .

وأمّا موثّقة عمّار الدّالة على اعتبار البينيّة المربَّعة في الكراهة ، بقرينة استثناء مقدار العشرة من الجهات الأربعة : فينزّل على إرادة بيان التربيع حيث يكون ، لا مطلقاً .

وعليه ، فالكراهة إلى القبور أو فيما بينها ثابتة ، إلّا أن يكون حائل بينه وبينها ، فإنّ لفظ الحائل وإن لم يرد في شيءٍ من نصوص الباب ، وإنّما ورد ذلك في السترة -كما سيأتي إن شاء الله تعالى -، إلّا أنّه مع ذلك ترتفع الكراهة ، لانصراف الأخبار الناهية عن الصّلاة إلى القبر ، أو فيما بين القبور ، إلى ما إذا لم يكن بينه وبينها حائل .

ولا إشكال في ارتفاعها فيما إذا كان الحائل مما يعتدّ به عرفاً ، وإنّما الإشكال في إطلاق الاكتفاء بأيّ حائلٍ يكون ولو عنزة ، أو قدر لَبِنة ، أو ثوب موضوع ، وما أشبهها ، فإنّ دعوى انصراف النصوص عمّا إذا كان بينه وبين القبور شيء من مثل هذه الأمور التي يكون إطلاق الحائل عليها على نوع من التوسعةِ ، مجازفةٌ .

ولعلّ الوجه في الاكتفاء بها عند جماعة من الأعلام - منهم المصنّف رحمه الله هنا -: هو ما تسمعه - إن شاء الله - من أخبار السّترة المبنية في الظاهر على أنّه بها يخرج عن صدق اسم الصّلاة إلى الإنسان ، إذ مع وجود السّترة تكون هي أول مصاديق السّترة ، ولا يقال حينئذٍ : إنّه صلى إلى الإنسان .

ونحوه يقرَّر في المقام ، ضرورة عدم إرادة مصداق البينيّة كيفما اتّفق ، ولو بعد مصداق بينات متعددةٍ قبلها ، بل المراد أّول مصاديق البينيّة ، فمع فرض وجود الحائل يكون هو أوّل المصاديق ، وفيه تأمّل .

وكذا ترتفع الكراهة لو كان بينه وبينها عشرة أذرع ، كما يشهد بذلك موثّقة عمّار المتقدّمة .

ولكن قد يُستشكل في ظاهر الموثّقة : بدلالتها على اعتبار البعد المذكور مطلقاً ، حتّى فيما إذا كانت القبور خلفه ، وهو خلاف ما يظهر من فتاوى الأعلام .

وقد يجاب عن ذلك : بأنّ الموثّقة إنّما وردت فيما لو صلّى بين القبور ، فأُريد بها التباعد عن القبور بالمقدار المذكور من أيّ ناحية ، فيما لو أحيط به القبور من جميع الجوانب .

وهذا بخلاف ما لو كانت القبور جميعها خلفه ، أو عن يمينه ، أو شماله ، فلا يصدق عليه حينئذٍ أنّه صلّى على القبر ، أو في المقابر ، أو فيما بين القبور ، والله العالم .

الأمر الثاني : في حكم قبر الإمام عليه السلام ، والكلام فيه يقع في جهات ثلاث :

الأُولى : في حكم التقدّم عليه عليه السلامفي الصّلاة .

الثانية : في حكم الصّلاة مساوياً له بأنْ يكون مما يلي رأسه ، أو رجليه عليه السلام .

الثالثة : في حكم التأخّر عنه .

أمَّا الجهة الأُولى : فالمشهور بين الأعلام هو الجواز على كراهة ، منهم المصنِّف رحمه الله في الدروس ، حيث قال في كتاب المزار في الدرس الثامن والعشرين بعد المائة : (سادسها : صلاة ركعتي الزيارة عند الفراغ - إلى أن قال : - ولو استدبر القبر ، وصلّى ، جاز وإن كان غير مستحسَن ، إلّا مع البعد) .

ومنهم صاحب الجواهر رحمه الله حيث قال : ( وتفصيل البحث فيها حينئذٍ أنّ الذي يظهر من الأصل ، وإطلاق الأدلّة بالخصوص عدم البطلان بالتقدّم عليها ، بل لعلّ سكوت المُعْظم عن ذكر ذلك مع ظهور استقصائهم في المندوبات والمكروهات ، كالصريح في ذلك ... )[4] .

هذا ، وحُكي عن الشّيخ البهائي والمجلسي والكاشاني (قدس الله أسرارهم) : المنع من التقدّم على قبر أحدِ الأئمة عليهم السلام .

ومنهم صاحب الحدائق رحمه الله حيث قال : (وبالجملة ، فإنّي لم أقف على مَنْ قال بالتحريم عملاً بظاهر الصحيحة المذكورة - يعني مكاتبة الحميري - سوى شيخنا البهائي طاب ثراه ، ثمّ اقتفاه جمع ممَّن تأخّر عنه منهم شيخنا المجلسي ، وهو الأقرب عندي ، إذ لا معارض للخبر المذكور ... )[5] .

أقول : قدِ استُدل للقول بالحرمة ببعض الرّوايات :

منها : صحيحة محمد بن عبد الله الحميري (قال : كتبتُ إلى الفقيه عليه السلام أسأله عن الرّجل يزور قبور الأئمة ، هل يجوز أن يسجد على القبر ، أم لا ، وهل يجوز لمَنْ صلّى عند قبورهم أن يقوم وراء القبر ، ويجعل القبر قبلةً ، ويقوم عند رأسه ، ورجليه ، وهل يجوز أن يتقدّم القبر ، ويصلّي ، ويجعله خلفه ، أم لا ؟ فأجاب - وقرأت التوقيع ، ومنه نسخت - : وأمّا السّجود على القبر فلا يجوز في نافلةِ ولا فريضةِ ولا زيارةِ ، بل يضع خدَّه الأيمن على القبر ، وأمَّا الصّلاة فإنّها خلفه ، ويجعله الأمام ، ولا يجوز أن يصلّي بين يديه لأنّ الإمام لا يُتقدّم ، ويصلّي عن يمينه وشماله)[6] .

أقول : يقع الكلام في هذه الرواية من ناحيتين :

الأُولى : من حيث السند .

والثانية : من حيث الدّلالة .

أمّا من حيث السّند : فلإنّ الشّيخ رحمه الله رواها عن محمّد بن أحمد بن داود ، ولم يذكر طريقه إليه في مشيخته .

أضف إلى ذلك : أنّها مروية عن الفقيه عليه السلام ، والظاهر منه الكاظم عليه السلام ، ونظراً إلى أنّ الحميري متأخّر عن زمانه عليه السلام، فالّسند فيه سقط ، فتكون مقطوعة .

وفيه : أنّ الشيخ وإن لم يذكر طريقه إلى محمد بن أحمد بن داود في المشيخة ، ولكن ذكر طريقه إليه في الفهرست ، وطريقه إليه صحيح .


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص162، أبواب مكان المصلّي، باب26، ح5، ط آل البيت.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص159، أبواب مكان المصلّي، باب25، ح5، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج3، ص106، أبواب مكان المصلّي، باب18، ح6، ط آل البيت.
[4] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج8، ص362.
[5] الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني (صاحب الحدائق)، ج7، ص220.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص160، أبواب مكان المصلّي، باب26، ح1، ط آل البيت.