الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

37/01/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مكانُ المصلِّي

 

وأيضاً طريق الشيخ رحمه الله إليه ضعيف بجهالة أحمد بن محمّد بن موسى ، وإن كان هو ابن عبد الملك ، فهو وإن كان ثقة - كما أنّ طريق الشيخ إليه معتبر ، لأنّ ابن الزّبير القرشي الواقع في طريقه إليه من المعاريف - إلّا أن الرواية ضعيفة ، لعدم تمييز أحمد بن محمّد بن سعيد بن عثمان عن أحمد بن الحسين بن عبد الملك .

مضافاً إلى أنّ الرّواي - وهو محمّد بن عبد الله بن مروان - مجهول ، هذا أوّلاً .

وثانياً : أنّه لم يُنقلِ القول بمضمونها عن أحدٍ من الأعلام ، فحتّى لو كانت الرّواية صحيحةً فيجب ردّ علمها إلى أهلها .

قوله : (وكذا تُكرَه على سطحها ، وعن الرضا - عليه السلام - : يستقلي ، ويصلّي مومئاً إلى البيت المعمور ، ولم يثبت سنده)[1]

المعروف بين الأعلام كراهة صلاة الفريضة على سطح الكعبة الشريفة ، ولم يخالف في جوازها اختياراً إلّا القاضي .

وقد يُستدلّ له بحديث المناهي عن الصّادق عن آبائه عليهم السلام (قال : نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الصّلاة على ظهر الكعبة)[2] .

وفيه أوّلاً : أنّه ضعيف بجهالة الحسين بن زيد ، وشعيب بن واقد ، كما أنّ إسناد الصّدوق رحمه الله إلى شعيب فيه حمزة بن محمّد العلوي ، وهو مهمل ، وعبد الله العزيز بن محمّد بن عيسى الأبهري ، وهو مجهول .

وثانياً : أنّه متروك عند الأصحاب ، فلا يصلح للعمل به .

وقد يُستدلّ لعدم صحّة صلاة الفريضة على ظهر الكعبة : بما استدلّ على عدم الصحّة في جوفها من أنّ المتبادر من الأمر بالتوجّه إلى الكعبة ، واستقبالها في الصّلاة هي كون الكعبة في جهة مقابلة للمصلّي ، فيكون خارجاً عنها .

وفيه : أنّ إطلاق الأمر بذلك جارٍ مجرى الغالب ، فلا يتبادر إرادته إلّا ممّن كان خارجاً عنها .

وأمّا مَنْ كان على سطحها فينصرف عنه هذا الإطلاق ، ويكون مأموراً باستقبالِ جُزءٍ منها ، ولو من فضائها .

هذا ، وعن الشّيخ الصدوق رحمه الله في الفقيه ، والشّيخ رحمه الله في الخلاف والنّهاية ، والقاضي رحمه الله في المهذّب ، أنّه يصلي على سطحها مُسْتلقياً على ظهره ، ويصلّي إلى البيت المعمور .

واحتجّ الشّيخ رحمه الله في الخلاف : بالإجماع .

وفيه أوّلاً : أنّه ليس بحجّة ، كما عرفت في أكثر من مناسبة .

وثانياًَ - مع قطع النظر عن ذلك - : فإنّه موهون بمخالفة المشهور حتّى الشيخ رحمه الله في مبسوطه .

واحتجّ أيضاً برواية عبد السّلام بن صالح عن الرّضا عليه السلام (في الذي تُدْركه الصّلاة ، وهو فوق الكعبة ، قال : إن قام لم يكن له قِبلة ، ولكن يستلقي على قفاه ، ويفتح عينيه إلى السّماء ، ويعقد بقلبه القبلة التي في السّماء البيت المعمور ، ويقرأ ، فإذا أراد أن يركع غمّض عينيه ، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع فتح عينيه ، والسّجود على نحو ذلك)[3] .

وفيه : أنّه ضعيف ، لاشتراك إسحاق بن محمّد ، الواقع في السند ، بين الثقة والضعيف ، ولا مميِّز ، خصوصاً مع إعراض المشهور عنها ، وإعراض الصّدوق رحمه الله ، والشّيخ رحمه الله في باقي كتبهما .

وعليه ، فلا يمكن الاعتماد عليها في تخصيص الأدلّة القطعيّة على وجوب القيام والرّكوع والسّجود والاستقبال ، فما ذهب إليه المشهور هو الأقوى .

ولكن لا يحتاج أن ينصب بين يديه شيئاً منها حال الصّلاة - كأن يجعل بين يديه سترة من نفس البناء ، أو غيره - وذلك لما عرفت سابقاً من أنّ القبلة هي الفضاء إلى السّماء ، والله العالم .

قوله : (ولا تُكره النافلة فيهما)

قدِ ادَّعى جماعة من الأعلام الإجماع على عدم كراهة النافلة في جوف الكعبة ، وعلى سطحها ، بل هناك تسالم بينهم .

ويدل على ذلك أيضا : جملة من الروايات ذكرناها في باب الحج :

منها : حسنة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : إذا أردت دخول الكعبة فاغتسل قبل أن تدخلها إلى أن يقول : ثم تصلي ركعتين بين الإسطوانتين على الرخامة الحمراء ... )[4] ، وهي صحيحة بطريق الشيخ رحمه الله .

ومنها : صحيحة إسماعيل بن همام (قال : قال أبو الحسن عليه السلام دخل النبي (صلى الله عليه وآله) الكعبة ، فصلّى في زواياها الأربع ، وصلّى في كلّ زاويةٍ ركعتين )[5] .

ومنها : صحيحة ثانية لمعاوية بن عمّار (قال : رأيت العبد الصّالح عليه السلام دخل الكعبة ، فصلّى ركعتين على الرّخامة الحمراء ... )[6] ، وكذا غيرها من الروايات .

قوله : (وإلى المقابر إلَّا بحائلٍ ، ولو عنزة ، أو ثوباً ، أو قدر لَبِنة ، ولو كان قبرَ إمامٍ ، وعلى ظهر القبر)

المشهور بين الأعلام كراهة الصّلاة بين المقابر ، وعلى القبر ، وعليه ، وعن صريح الغنية ، وظاهر المنتهى : الإجماع عليه .

أقول : يقع الكلام في أمرَيْن :

الأوَّل : في حكم سائر القبور غير قبور الأئمة عليهم السلام .

الثاني : في حكم قبر الإمام عليه السلام ، من حيث التقدّم عليه في الصّلاة ، أو المساواة له ، بأن يكون ممّا يلي رأسه الشريف ، أو رجلَيْه ، أو التأخّر عنه .

أمّا الأمر الأوَّل : فالكلام فيه من ثلاثِ جهاتٍ :

الأُولى : في الصّلاة بين المقابر .

ويدلّ على الكراهة جملةٍ من الروايات :

منها : موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث - (قال : سألته عن الرّجل يصلّي بين القبور ، قال : لا يجوز ذلك ، إلّا أن يجعل بينه وبين القبور إذا صلّى عشرة أذرع من بين يديه ، وعشرة أذرع من خلفه ، وعشرة أذرع عن يمينه ، وعشرة أذرع عن يساره ، ثمّ يصلّي إن شاء)[7] .

ومنها : مرسلة عبد الله بن الفضل عمّن حدّثه ، عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : عشرة مواضع لا يصلَّى فيها ، منها القبور)[8] ، ولكنّها ضعيفة بالإرسال .

ومنها : حديث المناهي (قال : نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يُجصَّص المقابر ، ويصلَّى فيها ، ونهى أن يصلِّي الرّجل في المقابر والطرق والأرحية والأودية ، ومرابط الإبل ، وعلى ظهر الكعبة)[9] ، وهو ضعيف جدّاً ، لِمَا تقدَّم قريباً ، والأرحية : جمع رحى ، وهي الطاحون ، والأصحّ أن يُجمع على أرحاء .

ومنها : رواية عُبَيْد بن زرارة (قال : سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول : الأرض كلّها مسجد إلّا بِئرَ غايطٍ ، أو مقبرةٍ ، أو حمامٍ)[10] ، وهي ضعيفة بجهالة كلٍّ من القاسم بن محمّد الجوهري ، وسليمان مولى طربال ، ووجودهما في كتاب كامل الزيارات لا ينفع ، لعدم كونهما من مشايخه المباشرين .

وظاهر هذه الرّوايات وإن كان هو الحرمة ، لا سيما موثّقة عمار ، إلَّا أنّه يتعيّن حَمْلها على الكراهة جمعاً بينها وبين الرّوايات النافية للبأس عن ذلك ، كما في صحيحة علي بن جعفر (أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام عن الصّلاة بين القبور هل تصلح ؟ فقال : لا بأس به)[11] .

وصحيحة عليّ بن يقطين (قال : سألتُ أبا الحسن الماضي عليه السلام عن الصّلاة بين القبول ، هل تصلح ؟ قال : لا بأس)[12] .

وصحيحة معمر بن خلاد عن الرضا عليه السلام (قال : لا بأس بالصّلاة بين المقابر ، ما لم يُتَّخذِ القبر قبلةً )[13] .

وحسنة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (قال : قلتُ له : الصّلاة بين القبور ؟ قال : بين خللها ، ولا تتخذ شيئاً منها قبلة ، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن ذلك ، وقال : لا تتخذوا قبري قبلةً ، ولا مسجداً ، فإنّ الله - عزوجل - لعن الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد)[14] .

ويؤيِّد الحمل على الكراهة : أنّه جمع في مرسلة عبد الله بن الفضل المتقدّمة بينها وبين ما هو معلوم الكراهة بلفظٍ واحد ، كما سيأتي ذكرها بتمامها ، إن شاء الله تعالى .

وأمّا الجمع بين الروايات المجوّزة وبين موثّقة عمار ، بحمل روايات المجوّزة على ما إذا كان بينه وبين القبول القبور من كلّ ناحيةٍ بمقدار عشرة أذرع من باب حَمْل المطلق على المقيد ، ففي غير محلّه ، للزوم حَمْل المطلق على الفرد النادر ، إذ لازم ذلك ابتعاد كلّ قبر عن غيره عشرين ذراعاً على الأقل ، لأنّ هذا هو معنى كون المصلّي بين قبرين يبعد كلّ منهما عن المصلّي عشرة أذرع .

ومن المعلوم أنّه لا يمكن تنزيل الرّوايات المجوِّزة على ذلك ، إذ المتبادر من نفي البأس عن الصلاة بين المقابر إنّما هو إرادة الصّلاة في المواضع المتّخذة مقبرةً للموتى كوادي السّلام ، ونظائرها .

وعليه ، فالمراد بهذه الأخبار : نفي البأس عن الصّلاة في المقابر إما مطلقاً ، كما هو ظاهر صحيحتي عليّ بن جعفر ، وعليّ بن يقطين ، أو في الجملة ، كما هو ظاهر صحيحة معمر بن خلاد ، وحسنة زرارة ، لا نفي البأس عن الصّلاة في ما بين مقابر متعدّدة ، بحيث يعدّ بعضها أجنبيّاً عن بعض ، فهي منصرفة عمّا لو صلّى في مكانٍ تكون المقابر بعيدةً عنه من كلّ ناحيةٍ بمقدار عشرة أذرع .

ومن هنا كان ما في موثّقة عمار بمنزلة الاستثناء المنقطع ، إذ المصلّي المتباعد عن القبور بقدر عشرة أذرع لا يقال : إنّه صلّى بين القبور ، ولا يطلق عليه اسم الصّلاة في ما بين القبور .

ثمّ إنّ المراد من النهي عن اتّخاذ قبره (صلى الله عليه وآله) قبلةً هو النهي عن البناء عليه معاملين له معاملة الكعبة في استقبال أيّ جُزء منه ، كما أنّ المراد من اتّخاذه مسجداً بناؤه معاملاً له معاملة المساجد في الصّلوات فيه .


[1] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص154.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج4، ص340، أبواب القبلة، باب19، ح1، ط آل البیت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج4، ص340، أبواب القبلة، باب19، ح2، ط آل البیت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج13، ص275، أبواب مقوّمات الطواف، باب36، ح1، ط آل البیت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج13، ص276، أبواب مقوّمات الطواف، باب36، ح2، ط آل البیت.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج13، ص277، أبواب مقوّمات الطواف، باب36، ح4، ط آل البیت.
[7] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص159، أبواب مكان المصلّي، باب25، ح5، ط آل البیت.
[8] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص159، أبواب مكان المصلّي، باب25، ح6، ط آل البیت.
[9] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص159، أبواب مكان المصلّي، باب25، ح2، ط آل البیت.
[10] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص159، أبواب مكان المصلّي، باب1، ح4، ط آل البیت.
[11] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص158، أبواب مكان المصلّي، باب25، ح1، ط آل البیت.
[12] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص159، أبواب مكان المصلّي، باب25، ح4، ط آل البیت.
[13] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص159، أبواب مكان المصلّي، باب25، ح3، ط آل البیت.
[14] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص161، أبواب مكان المصلّي، باب26، ح5، ط آل البیت.