الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/12/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الـمـــوضوع : مكانُ الـمُــصَــلِّـــي

قوله : (ولو تعذَّرا استحبّ تقدّم الرّجل ، إلّا مع ضيق الوقت)[1]

المعروف بين الأعلام أنّه لوِ اجتمعا في مكان واحد ، ولا يتمكنان من التباعد ، ولا من تقدّمه عليها ، فإنِ اتّسع الوقت صلّى الرّجل أوّلاً ، فإذا فرغ صلَّت المرأة ، كما في صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليه السلام (قال : سألتُه عن المرأة تزامل الرّجل في المحمل يصليّان جميعاً ، قال : لا ، ولكن يصلّي الرّجل ، فإذا فرغ صلّت المرأة)[2] .

وكما في موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام (قال : سألتُه عن الرّجل والمرأة يصلّيان معاً في المحمل ، قال : لا ، ولكن يصلّي الرّجل ، وتصلّي المرأة بعده)[3] ، والرواية موثَّقة ، لأنّ عليّاً الموجود في السّند هو عليّ بن جعفر بقرينة رواية موسى بن القاسم البجلي عنه ، كما أنّ درست الواسطي ثقة ، لأنّه من مشايخ علي بن الحسن الطاطري ، وقد شهد الشّيخ بوثاقة مشايخ الطّاطري .

والظاهر أنّ هذا الحكم على سبيل الأولويّة والاستحباب ، لا الوجوب ، كما عن الشّيخ رحمه الله ، وإن كانت عبارته تحتمل الاستحباب .

وعلى فرض ذهابه إلى الوجوب ، إلّا أنه بعيد جدّاً ، سواء كان المراد منه الوجوب الشرطي ، أو التعبدي ، إذ لا يخطر في الذهن من الصحيحة والموثقة إلَّا إرادته على جهة الاستحباب .

وإنّما قلنا : يخطر في الذهن الاستحباب ، جمعاً بينهما ، وبين صحيح ابن يعفور (قال : قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام أصلّي والمرأة إلى جنبي ، وهي تصلّي ؟ قال : لا ، إلّا أن تقدّم هي ، أو أنت ، ولا بأس أن تصلّي هي بحذاك جالسةً وقائمةً)[4] ، والمراد من تقدّمها في الزمان لا المكان ، بقرينة المنع من تقدّمها في المكان ، فتكون هذه الصحيحة ظاهرة في التخيير ، وجواز كلٍّ منهما .

وممّا يؤيِّد ما قلناه : ما عن العلّامة رحمه الله في المنتهى من دعوى الإجماع على الصّحة ، حيث قال رحمه الله - بعد ذكر الرّواية المتقدّمة - : (فلو خالف ، وصلّت المرأة ، صحّت صلاتها إجماعاً)[5] .

وممَّا يؤيِّد الاستحباب أيضاً : أنّ المكان قد يكون مُلْكاً للمرأة ، وقد لا يريد الرّجل الصّلاة في الوقت المخصوص ، والظاهر شمول خطاب الندب لهما ، بمعنى أنّه يستحبّ للرّجل التقدّم ، والمرأة تقديمه وتأخرها عنه حّتى لو كان المكان ملكها .

ولو ضاق الوقت سقط الوجوب والندب ، كما صرّح به جماعة من الأعلام ، لأنّ الصّلاة لا تسقط بحال وشرطيّة عدم المحاذاة إنّما هي في غير حال الضرورة كغيرها من الشرائط والأجزاء المعتبرة في الصّلاة التي لا تسقط بتعذّر شيءٍ منها ، عدى الطهارة الحدثيّة ، والله العالم .

قوله : (وعلى المنع لوِ اقترنا بطلتا ، ولو سبقت إحداهما ثمّ لحقت الأخرى ، فالأقرب بطلانهما)[6]

صريح المصنِّف رحمه الله هنا ، وظاهر المشهور بين الأعلام عدم الفرق في ذلك بين اقتران الصّلاتَيْن وعدمه ، وفي غاية المراد أنّه : (إذا بطلت صلاته بطلت صلاتها ، ولا قائل بالفرق) ، قال صاحب الجواهر رحمه الله : (قلت - وهو الأقوى - : ... ).

وذهب جمع من الأعلام المتأخّرين إلى تخصيص البطلان بالمقارنة والمتأخّرة ، دون السابقة ، منهم الشهيد الثاني رحمه الله في المسالك ، وصاحب المدارك رحمه الله ، حيث قال : (وينبغي القطع بصحّة الصّلاة المتقدّمة ، لِسَبْق انعقادها ، وفساد المتأخّرة خاصّة ، ومع الاقتران تبطل الصّلاتان لعدم الأولويّة)[7] .

وربّما مال إليه المصنّف رحمه الله في الذكرى ، قال فيها : (ولو سبقت إحداهما أمكن بطلان الثانية لا غير ، لسبق انعقاد الأُولى ، فيمتنع انعقاد الثانية ، ويحتمل بطلانهما معاً ، لتحقّق الاجتماع في الموقف المنهي عنه)[8] .

وقد يستدلّ لهذا القول : بأنّ الصّلاة اللاحقة ليست بصلاةٍ كي تصلح مانعةً من صحّة السّابقة ، فإذا دخل في الصّلاة فليس للمرأة أن تصلّي بحذائه ما لم يفرغ من صلاته ، فلو صلّت والحال هذه لم تصحّ صلاتها ، فهي كصلاة المحدِث ، صورة صلاة لا صلاة حقيقيّة ، فلا يتنجّز بواسطتها النهي في حقّ الرّجل عن أن يصلّي ، وبحذائه امرأة تصلّي.

وقد استدل أيضاً : بأنّه لم يُعهد في القواعد الشرعيّة بعد افتتاح الصّلاة على الصحة تأثير فعل غيره بغير اختيار المكلّف في إبطالها.

وعليه ، فيستبعد بطلان الصّلاة التي انعقدت صحيحة بفعل غيره.

وقدِ استدلّ بدليل ثالث : وهو صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة الدّالة على فساد صلاة المرأة وحدها ، دون الإمام والمأمومين.

أقول :

أمّا الدليل الأوَّل : فيرد عليه أنّ دليل مانعيّة المحاذاة إمّا أن يكون المراد منه المحاذاة في الصّلاة الصحيحة ، من غير جهة المحاذاة ، أو حتّى من جهة المحاذاة.

فعلى الأوَّل : فتكون الصّلاة اللاحقة صلاةً حقيقيّةً ، وتصلح أن تكون مانعةً من صحّة السّابقة ، فلا فرق حينئذٍ بين صورتي الاقتران والتعاقب في البطلان بالنسبة إليهما.

وعلى الثاني : لا فرق بينهما في عدم المانعيّة ، إذ كلّ منهما لا تصلح أن تكون مانعاً من صحّة الصّلاة ، ومقتضاه صحّة الصّلاة لكلٍّ منهما ، فلا فرق بين صورتي الاقتران والتعاقب ، وبما أنّ الثاني ممتنع ، إذ لا يمكن الالتزام بصحّة صلاتَيْهما في صورة الاقتران ، فيتعيّن القول الأوّل ، وهو البطلان ، بلا فرق بين صورتي الاقتران والتعاقب.

ويؤيِّده ، بل يُؤكِّده : أنّ صورة الاقتران نادرة جدّاً ، فكيف يُدّعى اختصاص النصوص بها ، وهل هذا إلّا حَمْل المطلق على الفرد النادر.

وأمَّا الدليل الثاني : وهو استبعاد تأثير الصّلاة اللاحقة في إبطال السّابقة ، فهو مجرد استبعاد لغير البعيد بعد مساعدة الدّليل عليه.

وأمّا الدليل الثالث : وهو صحيحة عليّ بن جعفر ، حيث ورد في ذَيْلها : (وما حال المرأة في صلاتها معهم ، وقد كانت صلَّت الظُّهر ، قال : لا يفسد ذلك على القوم ، وتعيده المرأة)[9] ، فقد عرفت سابقاً أنها لا تخلو من إجمال ، إذ يحتمل أن يكون الموجب للإعادة هو عدم تقدّم الإمام عليه الذي هو شرط في صحّة الائتمام ، حيث يُشترط التأخُّر عنه في الجملة ، إمّا مطلقاً ، أو في حقّ النساء عند اقتدائهنّ بالرّجال ، كما أنّه يحتمل أن يكون الموجوب للإعادة ، وعدم جواز الإتمام في العصر بالظّهر ، كما هو المحكي عن والد الصّدوق رحمه الله إلى غير ذلك من المحتمالات.

والخلاصة إلى هنا : أنّ المتعيّن هو القول الأوّل ، أي عدم الفرق في الحكم في البطلان بين اقتران الصّلاتين وعدمه ، والله العالم.

قوله : (وفي روايةٍ لو صلَّت حيال الإمام السّابق عليها أعادت وحدها)[10]

هي صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة ، وقد عرفت ما فيها من الاحتمالات.

 

قوله : (ولوِ اقتدتْ بإمامٍ بطلتْ صلاةُ مَنْ على جانبها ، وورائها من الرّجال ، ولو حاذتِ الإمام ، وعلم المأمومون بطلتْ صلاة الجميع ، ولو جهلوا بطلتِ الصّلاة ، وصلاة الإمام ، وأطلق الشيخ صحّة صلاة المأمومِين)[11]

قال الشّيخ رحمه الله في المبسوط : (فإن صلّت خلفه في صفٍّ بطلت صلاة مَنْ عن يمينها وشمالها ، ومن يحاذيها من خلفها ، ولا تبطل صلاة غيرهم ، وإن صلّت بجنب الإمام بطلت صلاتها وصلاة الإمام ، ولا تبطل صلاة المأمومِين الذي هم وراء الصفّ الأوّل ... )[12] .

ويحتمل قوله : (مَنْ عن يمينها وشمالها) جميع مَنْ في صفّها ، ورَجُلَيْن منهم خاصّة ، وكذا يُحتمل (مَنْ يحاذيها ) جميع من في الصفّ الثاني ، ومَنْ يحاذيها حقيقة ، ومن يحاذيها ويراها.

ولكن قد يُشكل : بأنّه كيف تصحّ صلاتهم مع بطلان صلاة الإمام ؟!

وقد يُجاب عن ذلك : بأنّه يجوز أن يريد صحتها إذا نوَوا الانفراد ، أو لم يعلموا بصلاتها إلى جنبه ، وبطلان صلاته ، وعدم العلم بفساد صلاة الإمام كافٍ في جواز الاقتداء.

وقال الشّهيد الثاني رحمه الله في الروض : (لو صلّتِ المرأة معه جماعةً محاذيةً له ، فعلى القول بالتحريم تبطل صلاتها وصلاة الإمام ، ومَنْ على يمينها ويسارها ، ومن تأخّر عنها ، مع علمهم بالحال ، ومع عدم العلم تبطل صلاتها لا غير ، ولو علم الإمام خاصّة بطلت صلاتهما معاً دون المأمومين ، وأطلق الشّيخ قدس سره صحّة صلاة المأمومين ، وهذا كلّه إنّما يتمّ مع القول بأنّ الصّلاة الطارئة تؤثّر في السّابقة ، أو على جواز تكبير المأموم مع تكبير الإمام ، وإلّا صحّتْ صلاة الإمام لتقدّمها ، ويبقى الكلام في المأمومين)[13] .

أقول : قد عرفت الضابطة التي ذكرناها سابقاً ، ولا حاجة للتطويل ، ومن خلالها تعرف ما هو الصحيح وما هو الفاسد ، والله العالم.


[1] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص153.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص131، أبواب مكان المصلي، باب5، ح2، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص132، أبواب مكان المصلي، باب8، ح2، ط آل البيت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص125، أبواب مكان المصلي، باب5، ح5، ط آل البيت.
[5] الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني (صاحب الحدائق)، ج7، ص190.
[6] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص153.
[7] مدارك الأحكام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج3، ص224.
[8] الذكرى، الشهيد الأول، ص150.
[9] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص399، أبواب مكان المصلي، باب9، ح1، ط آل البيت.
[10] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص153.
[11] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص154.
[12] المبسوط، الشيخ الطوسي، ج1، ص86.
[13] روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، الشهيد الثاني، ج2، ص145.