الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/12/29

بسم الله الرحمن الرحيم

المــــــوضوع : مكانُ المُصَلِّــي

وأمّا قول صاحب الجواهر قدس سره من أنّ (صحيح الصّدر يمكن إرادة الكناية به عن تأخّرها تماماً في كشف اللثام ... [1] ) بعيد جدّاً عن ظاهر الصّحيحة ، كما أنّ قوله قدس سره : (إنّ العامل بالصحيح نادر) في غير محلّه ، إذ حُكِي القول به عن بعض القدماء ، وجماعة من المتأخرين ، والله العالم.

وأما القول الثاني - وجود الحائل - : فإنّه يزول به التحريم أو الكراهة ، وفي الجواهر : (بلا خلاف أجده فيه ، بل عن المعتبر وما تسمعه من المنتهى الإجماع عليه ، وعن البحار كأنّه لا خلاف فيه ... )[2] .

أقول : هناك تسالم بين الأعلام على الحكم ، بحيث خرجت المسألة عن الإجماع المصطلح عليه.

ويدلّ عليه أيضاً بعض الأخبار التي تقدَّم بعضها :

منها : صحيحة بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (في المرأة تصلّي عند الرّجل ، قال : إذا كان بينهما حاجز فلا بأس)[3] ، وصرَّح الشهيد الثاني قدس سره بأنّه يُعتبر في الحائل أن يكون مانعاً من الرؤية ، وهو ظاهر كلام السّيد السّند قدس سره في المدارك ، حيث قال : (ويعتبر فيه كونه جسماً كالحائط ، والسّتر ...)[4] .

أقول : قد يُستدلّ لكونه مانعاً من الرؤية برواية محمّد الحلبي (قال : سألتُه - يعني أبا عبد الله عليه السلام - عن الرّجل يصلّي في زاوية الحجرة ، وابنته ، أو امرأته ، تصلّي بحذائه في الزواية الأخرى ، قال : لا ينبغي ذلك إلّا أن يكون بينهما ستر ، فإن كان بينهما ستر أجزأه)[5] ، بناءً على كون النسخة بالسِّين المهملة ، والتاء المثناة من فوق ، كما هو المعروف ، ولكنها ضعيفة كما تقدّم بالمفضّل بن صالح ، وبالإرسال ، لأنّ ابن إدريس قدس سره لم يذكر طريقه إلى نوادر البزنظي.

وممَّا يدلَّ على عدم اشتراط كونه مانعاً من الرؤية صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام - في حديث - (قال : سألتُه عن الرّجل يصلّي في مسجدٍ ، حيطانه كُوًى كلّه ، قبلته وجانباه ، وامرأته تصلّي حياله يراها ، ولا تراه ، قال : لا بأس)[6] .

وخبره الآخر (قال : سألتُه عن الرّجل ، هل يصلّح له أن يصلّي في مسجد قصير الحائط ، وامرأة قائمة تصلّي ، وهو يراها وتراه ؟ قال : إن كان بينهما حائط طويل ، أو قصير ، فلا بأس)[7] ، ولكنّه ضعيفة بعبد الله بن الحسن ، فإنّه مهمل.

ثمّ اعلم أنّه ليست الظّلمة من الحاجز والسّتر عرفاً ، ولا العمى ، ولا تغميض العين ، وفاقاً لجماعةٍ ، منهم صاحب المدارك قدس سره ، حيث قال : (ولا يعتدّ بنحو الظلمة ، وفَقْد البصر ، ولا بتغميض الصيحيح عينه قطعاً ... )[8] .

وقال المصنِّف قدس سره في البيان : (وفي تنزيل الظلام ، أو فَقْد البصر ، منزلة الحائل ، نظر ، أقربه المنع ، وأَولى بالمنع منع الصحيح نفسه عن الإبصار ... )[9] .

ولقد أجاد العلّامة قدس سره في النهاية حيث قال : (وليس المقتضي للتحريم أو الكراهة النظر ، لجواز الصّلاة وإن كانت قِدّامه عارية ، ولمنع الأعمى ، ومن غمَّض عينيه)[10] .

وظاهره المفروغيّة عن عدم الاكتفاء بالعمى ، وغمض البصر ، ولكنه في التحرير قال : (لو كان الرجل أعمى فالوجه الصحة ، ولو غمص الصحيح عينه فإشكال )[11] .

والخلاصة : أنّه لا يعتدّ بنحو الظلمة ، وفَقْد البصر منهما ، ولا بتغميض الصحيح عينه ، لِمَا عرفت أنّ ذلك ليس من الحاجز والسّتر عرفاً.

أما القول الثالث - التباعد بمقدار عشرة أذرُع - : فيه يرتفع التحريم أو الكراهة ، وفي الجواهر : (بلا خلاف معتدٍّ به أجده فيه أيضاً كالحائل ، بل عن المعتبر الإجماع على سقوط المنع ... )[12] .

أقول : قد عرفت حال الإجماع المنقول بخبر الواحد.

اللهمَّ إلَّا أن تكون المسألة متسالماً عليها بينهم.

ويدلّ عليه أيضاً رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام (قال : سألتُه عن الرّجل يصلّي ضحًى وأمامه امرأة تصلّي ، بنيهما عشرة أذرُع ، قال : لا بأس ، ليمضِ في صلاته)[13] ، ولكنّها ضعيفة بعبد الله بن الحسن ، فإنّه مهمل.

وقدِ استُدلّ أيضاً بموثقة عمّار المتقدّمة ، حيث ورد فيها : (لا يصلّي حتّى يجعل بينه وبينها أكثر من عشرة أذرُع ... )[14] ، بناءً على أنّ المراد منها العشرة فما فوق ، نظير قوله تعالى : (فإن كن نساء فوق اثنتين ) ، أو أنّ التعبير بذلك لأجل أنّ الفصل بهذا المقدار يمتنع العلم بحصوله عادةً إلّا على تقدير كونه أكثر ، قال صاحب المدارك قدس سره : (ومبدأ التقدير من موقف المصلّي ، ويحتمل اعتباره من موضع السّجود)[15] ، وقال الشّهيد الثاني قدس سره في الروض : (مبدأ التقدير في العشرة أذرُع من موقف المصلّي إلى موقفها ، وهو واضح مع المحاذاة ، أما مع تقدّمها فالظاهر أنّه كذلك ، لأنّه المفهوم المتباعد عرفاً وشرعاً ، كما نبّهوا عليه في تقدّم الإمام على المأموم ، ويحتمل اعتباره من موضع السّجود ، لعدم صدق التباعد بين بدنيهما حالة السّجود بذلك القدر ، وليس في كلامهم تصريح في ذلك بشيء)[16] .

أقول : يقوى في النظر - بعد عدم وجود دليل في البين - كون المدار على البُعد عشرة أذرُع في جميع الأحوال فيكفي حال الوقوف العشر من محلّه من طرف إبهامي قدميه إلى عقبيها مثلاً لو كانت متقدّمة ، ويعتبر في حال السّجود من منتهى رأسه إلى عقبيها مثلاً ، إذ المدارك على صدق البينة في أحوال الصّلاة ، والله العالم.

وأما القول الرّابع : وهو ما إذا اختلف المكانان من حيث العلو والانخفاض مكان أحدهما في مكان عالٍ ، على وجه لا يصدق معه التقدّم أو المحاذاة عرفاً ، ولم يتعرّض للفوقيّة والتحتيّة من تَقدّم على المصنِّف من الأعلام ، وهلِ اختلاف المكانين من حيث العلوّ والانخفاض ملحق بالتقدّم ، والمحاذاة أو بالتأخُّر.

وأمَّا المصنِّف قدس سره فقال في المحكي عن غاية المراد : (أنّه محتمل من فحوى المنع ، مع إمكان إلحاقه بتأخّرها ، وخصوصاً فوقيّتها)[17] ، وقال قدس سره عند قول الباقر عليه السلام (لا تصلّ المرأة بحيال الرّجل ، إلّا أن يكون قدّامها ولو بصدره)[18] : (أنّه يظهر من فحواه المنع من الجهتين)[19] .

أقول : المستفاد من الرّوايات المتقدّمة كون الموضوع للمانعية هو التقدّم أو المحاذاة ، فإذا كان أحدهما في مكان مرتفع عن مكان الآخر ، بحيث لا يصدق معه أحد العنوانين ، لم يكن المورد حينئذٍ داخلاً في موضوع المانعية.

نعم ، إذا كان الإرتفاع قليلاً بمقدار ذراعِ ونحوه لم يكن مانعاً من صِدق التقدّم والمحاذاة ، فيكون مشمولاً للرّوايات ، وهل المعيار في عدم صدق التقدّم أو المحاذاة ، هو كون الإرتفاع بمقدار قامة الآخر ، وما فوق ، أو تعدّد المكان عرفاً ووحدته.

والإنصاف : أنّ مرجع ذلك إلى العرف ، ولا يهمّنا تشخيص ذلك ، إذ لم تتعرّض النصوص للفوقيّة والتحتيّة ، ولا يوجد فيها إيماءً إلى شيء من ذلك ، والله العالم.


[1] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج8، ص310.
[2] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج8، ص119.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص127، أبواب مكان المصلي، باب8، ح2، ط آل البيت.
[4] مدارك الأحكام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج3، ص224.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص130، أبواب مكان المصلي، باب8، ح3، ط آل البيت.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص129، أبواب مكان المصلي، باب8، ح1، ط آل البيت.
[7] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص130، أبواب مكان المصلي، باب8، ح4، ط آل البيت.
[8] مدارك الأحكام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج3، ص224.
[9] البيان، الشهيد الأول، ص64.
[10] نهاية الإحكام، العلامة الحلي، ج1، ص349.
[11] تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية، العلامة الحلّی، ج1، ص33، ط القديمة.
[12] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج8، ص322.
[13] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص129، أبواب مكان المصلي، باب7، ح2، ط آل البيت.
[14] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص128، أبواب مكان المصلي، باب7، ح1، ط آل البيت.
[15] مدارك الأحكام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج3، ص224.
[16] روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، الشهيد الثاني، ج2، ص143.
[17] غاية المراد في شرح نكت الإرشاد، الشهید الاول، ج1، ص126.
[18] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص128، أبواب مكان المصلي، باب7، ح1، ط آل البيت.
[19] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج8، ص324.