الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/12/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مكان المصلَّي

وقد يؤيِّد هذا الحمل : معتبرة أبي بصير المتقدّمة (قال : سألته عن الرّجل والمرأة يصلّيان في بيتٍ واحدٍ ، المرأة عن يمين الرّجل بحذاه ، قال : لا ، إلّا أن يكون بينهما شبر أو ذراع ، ثمّ قال : كان طول رَحْل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذراعاً ، وكان يضعه بين يديه إذا صلّى ، يستره ممَّن يمرّ بين يديه)[1] ، إذ الظاهر أنّ قوله عليه السلام : (كان طول رَحْل رسول الله - صلى الله عليه وآله- ) بمنزلة الاستشهاد لكفاية شبر أو ذراع ، وهذا يكشف عن المراد بالشبر والذراع ما كان طوله كذلك ، وإلّا فلا مناسبة بين الكلامَيْن ، فيُستفاد من ذلك أنّه يكفي في الحاجز المعتبر في هذا الباب مثل ما يكفي حاجزاً عمّن يمرّ بين يديه ، وهو ما كان طوله أو ارتفاعه شبراً ، أو ذراعاً .

ويؤيِّد هذا الحمل أيضاً : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام - في حديث - (قال : سألتُه عن الرجل يصلي في مسجد حيطانه كوى [2] كلّه قبلته وجانباه ، وامرأته تصلّي حياله يراها ، ولا تراه ، قال : لا بأس)[3] .

وخبره الآخر (قال : سألتُه عن الرّجل هل يصلح له أن يصلّي في مسجدٍ قصيرِ الحائط ، وامرأة قائمة تصلّي ، وهو يراها وتراه ؟ قال : إن كان بينهما حائطٌ طويل ، أو قصير ، فلا بأس)[4] ، ولكنّه ضعيف بعبد الله بن الحسن ، فإنّه مهمل .

والإنصاف : أن هذا الحمل أيضا بعيد :

أوَّلاً : أنّه مخالف لكلمات الأعلام من عدم الاكتفاء بهذا المقدار من الحاجز في رفع المنع ، لا سيّما مقدار الشّبر .

وثانياً : أنّه مخالف لظواهر الأخبار ، لا سيّما حسنة حريز المتقدّمة عن أبي عبد الله عليه السلام (في المرأة تصلّي إلى جنب الرّجل قريباً منه ، فقال : إذا كان بينهما موضع رجل (رحل خ ل) فلا بأس)[5] .

ومثلها رواية زرارة المتقدمة أيضاً[6] وقد عرفت أنّها ضعيفة السند .

هذا ، وقد ذكر جماعة كثيرة من الأعلام - منهم صاحب الجواهر قدس سره - أنّ هذا الاختلاف في الأخبار لا يصلح له إلّا الكراهة المختلفة باختلاف هذه المراتب شدّةً وضعفاً[7] .

ولكنّ الإنصاف : أنّ مقتضى الصناعة العلميّة هو حَمْل الرّوايات الناهية - التي استدل بها أصحاب القول الأوّل - على الكراهة ، بمقتضى الجمع بينها وبين الرّوايات المجوِّزة .

نعم ، إنّ التحديد بالشّبر الذي هو أقلّ تلك المراتب صريح في المانعيّة فيما دون هذا الحدّ من غير معارض له ، ولا وجه لحمله على الكراهة إلّا مجرد استبعاد التفصيل بين الشّبر وغيره في الكراهة ، وهو استبعاد في غير محلّه لما عرفت .

وعليه ، فالمتعيّن هو الإلتزام بمقالة الجعفي ، بعد حَمْل ما وقع في كلامه من التحديد بعظم الذّراع على إرادة التحديد التقريبي ، بحيث لا ينافيه الاكتفاء بالشّبر الذي هو أقلّ من عظم الذّراع بمقدار غير معتدٍ به ، والله العالم بحقائق أحكامه .

قوله : (ولا فرق بين المحرم والأجنبيّة)[8]

لإطلاق أكثر النصوص ومعقد الإجماع ، وفي بعض النصوص قد نصّ فيها على الزوجة والبنت .

وبالجملة ، فالمسألة متسالم عليها بين الأعلام .

قوله : (والمقتدية والمنفردة)

لا خلاف عندنا في ذلك لإطلاق الأخبار ، وخصوص بعض الروايات المصرّح فيها بالاقتداء ، أو الانفراد ، خلافاً لأبي حنيفة فيما لو صلّت منفردة .

قوله : (والصّلاة الواجبة والمندوبة)

لإطلاق أغلب النصوص الواردة في المقام ، مضافاً إلى أنّ حكم الفريضة يعطي للنافلة ، إلّا مع التصريح باختصاص بعض الأحكام بالفريضة ، كما لا يخفى .

 

 

قوله : (ويزول المنع بالتأخّر ، أو بعد عشرة أذرع)

ذكر بعض الأعلام أربعة أمور يزول بها المنع أو الكراهة ، وقدِ اقتصر المصنّف قدس سره على اثنين منها ، وهما التأخُّر والبُعد ، ولم يذكر الإثنين الأخريين ، وهما الحائل والارتفاع ، ونحن - إن شاء الله تعالى - سنذكر هذه الأمور بالتفصيل تباعاً .

ولْنبدأ بالتأخُّر ، حيث ذكر الأعلام أنّ تأخّر المرأة مُزيل للمنع أو الكراهة ، باعتبار أنّ عناوين الأخبار اشتملت على كون الرّجل بحيال المرأة ، أو بحذائها ، أو كونها عن يمينه أو شماله ، وشتى من هذه العناوين لا تنطبق مع كونها متأخّرة عنه .

ولكنِ اختلفوا ، فهل المعتبر تأخّرها تماماً ، بأن يكون موضع سجودها خلف قدميه ، أو لا أقلّ مجازياً لقدميه ، أم يكفي التأخّر العرفي ؟

قد يشهد للثاني صحيحة زرارة المتقدّمة عن أبي جعفر عليه السلام (قال : سألتُه عن المرأة تصلّي عند الرّجل ، فقال : لا تصلّي المرأة بحيال الرّجل إلّا أن يكون قِدّامها ولو بصدره)[9] .

ويشهد له أيضاً مرسلة جميل عن أبي عبد الله عليه السلام (في الرّجل يصلّي والمرأة بحِذاه ، أو إلى جنبه ، قال : إذا كان سجودها مع ركوعه فلا بأس)[10] ، ومثلها مرسلة ابن بكير[11] ، بناءً على إرادة كون سجودها محاذياً لموضع ركوعه ، فيقرب مفادهما من مفاد الصحيحة .

ولكن الذي يهوِّن الخطب أنّهما ضعيفتان بالإرسال ، فتبقى الصحيحة هي الحجّة .

وأمّا القول الأوّل - أي تأخّرها تماماً - : فقد ذهب إليه جماعة من الأعلام ، منهم صاحب الجواهر ، وقد يستدل لهم بموثّقة عمّار المتقدّمة عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث - (أنّه سُئل عن الرّجل يستقيم له أن يصلّي وبين يديه امرأة تصلّي ؟ قال : إن كانت تصلّي خلفه فلا بأس ، وإن كانت تصيب ثوبه)[12] .

واستدل أيضاً بصدق اليمين والجنب ونحوهما على غير المتأخّر تماماً .

وفيه : أنّ صحيحة زرارة واضحة المراد وهي دالّة على كفاية التأخّر ، ولو بالجملة ، قال عليه السلام (إلّا أن يكون قِدّامها ولو بصدره)[13] .

ومن هنا يكون المراد من الخلف في الموثّقة هو خلفه ، ولو قليلاً كما سيأتي ذلك - إن شاء الله تعالى - في صلاة الجماعة ، حيث إنّا قلنا : إنّ المراد من كون المأموم خلف الإمام هو تأخّره قليلاً ، ولا يُشترط في صدق الخلف أن يكون موضع سجود المأموم خلف قدمي الإمام .

وممّا ذكرنا يتضح لك عدم صدق اليمين والجنب ونحوهما على المتأخّر تماماً .


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص124، أبواب مكان المصلي، باب5، ح3، ط آل البيت.
[2] الكوّة : تفتح، وتضم : الثقبة في الحائط، وجمع المفتوح على لفظة كوات، مثل حبة وحبات، وجمع المضموم كوى بالضم والقصر، مثل مُدية ومدًى.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص129، أبواب مكان المصلي، باب8، ح1، ط آل البيت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص130، أبواب مكان المصلي، باب8، ح4، ط آل البيت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص124، أبواب مكان المصلي، باب5، ح11، ط آل البيت.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص124، أبواب مكان المصلي، باب5، ح12، ط آل البيت.
[7] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج8، ص308.
[8] الينابيع الفقهية، علي أصغر مرواريد، ج28، ص598.
[9] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص127، أبواب مكان المصلي، باب6، ح2، ط آل البيت.
[10] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص127، أبواب مكان المصلي، باب6، ح3، ط آل البيت.
[11] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص127، أبواب مكان المصلي، باب6، ح5، ط آل البيت.
[12] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص127، أبواب مكان المصلي، باب6، ح4، ط آل البيت.
[13] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص127، أبواب مكان المصلي، باب6، ح2، ط آل البيت.