الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/12/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مكان المصلَّي

 

ومنها : صحيحة الفُضيل عن أبي جعفر × (قال : إنّما سميت بكّة لأنّه تبكّ فيها الرجال والنساء ، والمرأة تصلّي بين يديك ، وعن يمينك ، وعن يسارك ، ومعك ، ولا بأس بذلك ، وإنّما يُكره في سائر البلدان)[1] ، وهذه الصحيحة نصّ في المطلوب ، بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ الكراهة ، أو الحقيقة المتشرعيّة في زمن الباقر × ، وإلّا فلا ريب في ظهورها في ذلك .

على أنّه يمكن الاستدلال بالنصّ فيها على رفع المنع عن ذلك في مكّة متمماً في غيرها من سائر البلدان بعدم القول بالفصل .

نعم ، يبقى الفرق بين مكّة وغيرها هو عدم الكراهيّة في مكّة وثبوتها في غيرها من البلدان .

وقدِ استدلّ أيضاً بعدّة أخبار اشتركت في الدّلالة على عدم اعتبار الحائل ، أو التباعد بالعشرة أذرع ، وإذا انتفى ذلك ثبت الجواز مطلقاً ، إذ لا قائل بالفصل .

وبالجملة ، هذه الأخبار التي سنذكرها نفت البأس فيما إذا كان بينه وبينها ذراع أو ستر أو قدر ما لا يتخطى ، إذ لا يلتزم القائلون بالمنع بكفاية هذا المقدار من الفصل ، فلا بدّ إمّا من طرح هذه الأخبار الكثيرة ، أو الالتزام بكون الحكم على سبيل الكراهة التي لا تنافيها اختلاف التحديدات الواقعة في الأخبار :

فمنها : صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله × (أنّه سأله عن الرجل يصليّان في بيتٍ واحدٍ ، قال : إذا كان بينهما قدر شبر صلّت بحذاه وحدها وهو حدّه ، ولا بأس )[2] ، وفي طريق الشيخ الصّدوق & إلى معاوية بن وهب محمّد بن علي بن ماجيلويه ، ولكنّه من المعاريف الكاشف ذلك عن وثاقته .

ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر × (قال : إذا كان بينها وبينه ما لا يتخطّى ، أو قدر عظم الذراع فصاعداً ، فلا بأس )[3] .

ومنها : معتبرة أبي بصير ليث المرادي (قال : سألته عن الرجل والمرأة يصليان في بيت واحد المرا× عن يمين الرجل بحذاه قال : لا ، إلا أن تكون بينهما شبر أو ذراع)[4] ، والرّواية معتبرة ، لأنّ الحسن بن زياد الصيقل الموجود في السند من المعاريف الكاشف ذلك عن وثاقته .

ومنها : روايته الأخرى - حيث ورد في ذيلها - (لا حتى يكون بينهما شبر أو ذراع أو نحوه)[5] ، ولكنّها ضعيفة بمحمّد بن سنان .

ومنها : حسنة حريز عن أبي عبد الله × (في المرأة تصلّي إلى جنب الرّجل قريباً منه ، فقال : إذا كان بينهما موضع رجل (رحل) فلا بأس)[6] ، ونحوها رواية زرارة عن أبي جعفر × (قال : قلت له : المرأة والرّجل يصلّي كلّ واحد منهما قِبالة صاحبه ؟ قال : نعم ، إذا كان بينهما قدر موضع رحل)[7] ، ولكنّها ضعيفة بالإرسال ، لأنّ ابن إدريس & لم يذكر طريقه إلى كتاب حريز ، وموضع الرّجل أو الرّحل هو ما يجعل على البعير كالسّرج للفرس ، وهو يقرب من الذراع .

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (قال : سألته عن الرّجل يصلّي في زواية الحجرة وامرأته ، أو ابنته تصل بحذاه في الزاوية الأخرى ، قال : لا ينبغي ذلك ، فإن كان بينهما شبر أجزأته ، يعني إذا كان الرّجل متقدماً للمرأة بشبر)[8] .

وقوله : (يعني إذا كان ... ) يحتمل أن تكون من كلام الشيخ & ، ويحتمل أن يكون من الرّاوي ، ورواها الكليني & إلى قوله : (أجزأ) ، وفي بعض نسخ الكليني & بدل الشبر السّتر (فإن كان بينهما ستر أجزأه) ، والسّتر بالسين المهملة والتاء المثناة من فوق ، وعلى كلّ حال هي بطريق الكليني ضعيفة بسهل بن زياد .

وذكر جماعة من الأعلام أنّ الاستدلال على الجواز مبني على نسخة التهذيب ، أي إذا كان بينهما شبر ، وأمَّا على نسخة الكافي فتدلّ على عكس المطلوب ، أي تدلّ على التحريم إذا لم يكن بينهما حائل ، ولكن لا يخفى عليك فإنّها تدلّ على الجواز سواءً على نسخة التهذيب أم الكافي ، وذلك لأنّ (لا ينبغي) ظاهرة في الكراهة .

نعم ، هناك خلل في المتن بناءً على نسخة التهذيب ، وهو أنّه يستبعد جدّاً كون الفاصلة بين زاويتي الحجرة بمقدار الشّبر ، وأمّا ما ذكره صاحب الجواهر & من أنّه (يكفي في حُسْنه كون بعض البيوت في غاية الضيق) [9] في غير محلّه ، كما لا يخفى .

ومن هنا يحتمل قويّاً كون نسخة الكافي أضبط ، أي السّتر بدل الشّبر ، لكنّك عرفت أنّ نسخة الكافي ضعيفة السند .

ويؤيِّد نسخة الكافي ما رواه ابن إدريس & في مستطرفات السّرائر من نوادر البزنطي عن المفضّل عن محمّد الحلبي - حيث ورد في الذيل - (قال : لا ينبغي ذلك إلّا أن يكون بينهما ستر ، فإن كان بينهما ستر أجزأه)[10] ، ولكنّها ضعيفة بالمفضل بن صالح ، وبالإرسال ، لعدم ذكر ابن إدريس & طريقه إلى نوادر البزنطي .

ثمّ إنّ صاحب الحدائق & لما ذهب إلى القول بالمنع حمل نصوص التقدير بما دون العشرة على صورة تقدّم الرّجل على المرأة ، لا المحاذاة الحقيقية .

وقد يؤيِّد الحمل على صورة تقدّم الرجل صحيحة زرارة المتقدّمة عن أبي جعفر × (عن المرأة تصلّي عند الرّجل فقال × : لا تصلّي المرأة بحيال الرّجل إلّا أن يكون قدامها ولو بصدره)[11] ، إذ المقصود بها بسحب الظاهر تقدّمه عليها بمقدار أقلّه أن يكون مسجداً محاذياً لصدره حال السّجود .

ولكنّ الإنصاف : أنّ هذا الحمل بعيد جدّاً عن ظاهر الأخبار المتقدّمة ، بل صحيحة معاوية بن وهب المتقدّمة كادت تكون صريحة في إرادة نفي البأس عن المحاذاة الحقيقية إذا كان بينهما شبر إذا صليّا منفردين .

وبالجملة ، ما ذكره من التكلف منافٍ للفظ المحاذاة وللفظ البنية ، ضرورة عدم صدقهما بتقدّم الرّجل المقدار المزبور ،ـ مع خلوّ الأخبار المتقدّمة عن إشعار بإعادة تقدم الرّجل من البنية المذكورة .

وصحيحة زرارة الوارد فيها : (إلّا أن يكون قدامها ولو بصدره) أقصاها الدّلالة على الاجتزاء بالتقدّم بالصّدر ، لا الشهادة على كون المراد ذلك من هذه النصوص .

ثمّ إنّه أيضاً حُكي عن بعض أنّه حمل أخبار التقدير بما دون العشرة على إرادة ما لو كان بينهما حاجب ، أي إذا كان بينهما حائل ارتفاعه بمقدار شبر أو ذراع ، أو نحوهما ، فلا بأس .

 


[1] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص126، أبواب مكان المصلي، باب5، ح10، ط آل البیت.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص125، أبواب مكان المصلي، باب5، ح7، ط آل البیت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص125، أبواب مكان المصلي، باب5، ح8، ط آل البیت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص124، أبواب مكان المصلي، باب5، ح3، ط آل البیت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص124، أبواب مكان المصلي، باب5، ح4، ط آل البیت.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص126، أبواب مكان المصلي، باب5، ح11، ط آل البیت.
[7] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص126، أبواب مكان المصلي، باب5، ح12، ط آل البیت.
[8] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص123، أبواب مكان المصلي، باب5، ح1، ط آل البیت.
[9] جواهر الكلام الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج8، ص310.
[10] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص130، أبواب مكان المصلي، باب8، ح3، ط آل البیت.
[11] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص127، أبواب مكان المصلي، باب6، ح2، ط آل البیت.