الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/11/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مكان المصلَّي

 

تابع ..

وفي هذه الحالة لا يصحّ للوارث التصرّف في التركة بدون الاستئذان من ولي الميت إن كان ، وإلا فالحاكم الشرعي.

وبالجملة ، فإنّ تصرُّف الوارث في التركة بدون الاستئذان ، سواء كان في الصّلاة أم غيرها ، وإن كان ممنوعاً وغصباً ، إلّا أنه غصب للعين ، وليس تصرّفاً في متعلّق حقّ غيره حتّى يدخل في مسألة التصرُّف في متعلّق حقّ غيره.

وممَّا ذكرناه يتضح لك الحال في حقّ الميت إذا أوصى بثُلُث ماله ، فإنّ الصحيح حصول الشّركة بين الميت والورثة ، ويكون تصرّفهم بدون الاستئذان من ولي الميت إن كان ، وإلَّا فمن الحاكم الشرعي غصباً للعين ، فيدخل في المسألة الأولى ، وهي الغصب المتعلّق بالعين.

وأمَّا حقّ السّبق ، كما لو سبق إلى مكان في المسجد أو غيره ، فغصبه منه غاصب ، فهل تبطل الصَّلاة بغصبه ، أم لا ؟

ظاهر جماعة من الأعلام البطلان ، بل نُسِب إلى المشهور ، وفي الجواهر : (أمَّا حقّ السّبق في المشتركات - كالمسجد ونحوه - ففي بطلان الصّلاة بغصبه وعدمه وجهان ، بل قولان ، أقواهما الثاني ، وفاقاً للعلامة الطباطبائي في منظومته ، لأصالة عدم تعلّق الحقّ للسّابق على وجه يمنع غيره بعد فرض دفعه عنه ، سواء أكان هو الدافع أم غيره ، وإن أتمّ بالدفع المزبور لأولويته ، إذ هي أعمّ من ذلك قطعاً.

وربّما يؤيِّده : عدم جواز نقله بعقد من عقود المعاوضة ، مضافاً إلى ما دلّ على الاشتراك الذي لم يثبت ارتفاعه بالسّبق المزبور ، إذ عدم جواز المزاحمة أعمّ من ذلك ، فتأمّل ... )[1] .

أقول : إذا لم يوجد ما يدلّ على تعلّق الحقّ للسّابق ، على وجهٍ يمنع غيره ، يكون ما ذكره صاحب الجواهر رحمه الله من أصالة عدم تعلّق الحقّ للسّابق في غاية الصحّة والمتانة ، إلّا أنّه قدِ استُدلّ لثبوت الحقّ للسّابق على وجهٍ يمنع غيره بروايتَيْن :

الأُولى : مرسلة محمّد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام (قلتُ له : نكون بمكّة ، أو بالمدينة ، أو الحيرة ، أو المواضع التي يُرجى فيها الفضل ، فربما خرج الرّجل يتوضّأ ، فيجيء آخر فيصير مكانه ، قال عليه السلام : مَنْ سبقَ إلى موضعٍ فهو أحقُّ به ، يومه وليلته)[2] .

الثانية : رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه السلام ( قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ’ : سُوقُ الْمُسْلِمِينَ كَمَسْجِدِهِمْ ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَكَانٍ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِه إِلَى اللَّيْلِ ، ( قَالَ خ ل) وكَانَ لَا يَأْخُذُ عَلَى بُيُوتِ السُّوقِ كِرَاءً )[3] .

وفيهما أوَّلاً : أنّهما ضعيفتا السّند ، الأُولى بالإرسال ، والثانية بطلحة بن زيد ، فإنّه غير موثّق ، ووجوده في كامل الزيارات ، وتفسير عليّ بن إبراهيم ، لا ينفع ، لأنّه ليس من مشايخهما المباشرين.

إن قلت : إنّ الشّيخ ذَكَر أنّ له كتاباً معتبراً.

قلت : هذا لا يلزم منه توثيقه.

أضف إلى ذلك : أنّه لم يُعلم أنّ الرّواية أُخذِت من كتابه ، ولعلّها أُخذِت منه مشافهةً ، ولم يلتزم الشيخ الكليني & بنقل الرّواية عمَّن له كتاب ، أو أصل ، من كتابه أو أصله ، كما التزم الشّيخ & بذلك.

وثانياً : أنّ الأخذ بظاهرهما من ثبوت حقّ له في المكان ، بحيث يكون التصرّف فيه للحقّ غصباً للحقّ لو كان دفعه عنه ظلماً ، ينافيه عدم ظهور العلم بالتحديد المذكور فيهما ، وعدم ظهور القول بإطلاقهما من حيث وجود الرّجل وعدمه ، بل وعدم ظهور القول بإطلاق الرّواية الثانية من حيث نية العود وعدمها ، مع أنّه لا إشكال عند الأعلام في سقوط الحقّ لو قام مفارِقاً رافعاً يده عنه ، كما أنه لا إشكال في سقوط حقّه مع عدم الرَّحْل وإن نوى العود ، وكان قيامه لضرورةٍ من تجديدِ طهارةٍ ، ونحوها.

ولأجل ذلك كلّه تُحْمل الرّوايتان - مع قطع النظر عن ضعفهما سنداً - على عدم جواز مزاحمةً السّابق ما دام شاغلاً للمحل ، فمَنْ سبق إلى مكان من المسجد فهو أحقّ به ما دام شاغلاً ، وأما أزيد من ذلك فلو دفعه شخص أثم ، ولكن لا تبطل صلاته ، والله العالم.

قوله : (ولا فرق بين الجمعة غيرها)[4]

لا فرق في بطلان الصّلاة في المكان المغصوب بين اليوميّة وغيرها ، فريضةً كانت أم نافلة ، وبعض العامة يصلّي الجمعة والعيد والجنازة في الموضع المغصوب ، لأنّ الإمام إذا صلّى في موضع مغصوب فامتنع الناس فاتتهم الصّلاة ، ولهذا أُبيحت الجمعة خلف الخوارج والمبتدعة.

قال صاحب المدارك رحمه الله : (وهذا غلط فاحش )[5] .

أقول : لا يخفى ما في هذا الكلام المنسوب إلى بعض العامّة.

أمّا أوّلاً : فلأنّه لا يشترط عند أكثر العامة ، وجمهورهم إباحة مكان الصّلاة ، فالكلام معه مبني على الحكم التكليفي ، لا الوضعي.

وثانياً : أنّ الصّلاة خلف الخوارج والمبتدعة في الجمعة والعيدين غير صحيحة ، لاشتراطها بعدالة الإمام ، وكذا لا تصحّ خلف من لم يكن معذوراً في ارتكاب الغصب ، لفَقْد العدالة.

نعم ، يمكن فرض المسألة في الصّلاة خلف الإمام الذي يجوز الاقتداء به ، كما لو صلّى الجمعة بعدد تنعقد به الجمعة في مكان مغصوب جاهلين بغصبية المكان ، ففي هذه الصّلاة لو فرضنا وجوب صلاة الجمعة عيناً على المكلفين ، فهل يجوز لهم الاقتداء بتلك الصّلاة مع علمهم بالغصبيّة والحرمة ؟

الإنصاف : أنّه قد ذكرنا في مبحث التزاحم أنّه يقدّم المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة ، وبما أنّ صلاة الجمعة مشروطة بالقدرة الشرعيّة بدليل وجود البدل لها عند الاضطرار ، وهو صلاة الظهر ، فتقدّم حينئذٍ حرمة الغصب ، لعدم اشتراطها بالقدرة الشرعيّة ، ويسقط حينئذٍ وجوب صلاة الجمعة ، وينتقل إلى صلاة الظهر.

وأمّا بالنسبة صلاة العيد : فلو فرضنا وجوبها عيناً جماعةً فيشكل الأمر حينئذٍ ، لعدم اشتراطها بالقدرة الشرعيّة ، حتّى تقدّم عليها حرمة الغصب ، فقد يُقال : بالتخيير بعد فَقْد الترجيح.

وأمّا صلاة الجنازة فأمرها واضح لكونها واجباً كفائيّاً ، فيُكتفى بصلاة الإمام.

 

قوله : (ولو صلّى المالك في المغصوب صحّت صلاته ، خلافاً للزيديّة)

لم يتضح لي وجه المنع ، إذ المفروض أنّ صاحب المكان صلّى فيما يملكه ، وإن غصبه منه غاصب ، فلا بدّ من الحكم بصحّة صلاته مع استجماعها لسائر الشروط.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من البطلان في المكان المغصوب إنّما هو في صورة العلم بالحكم والغصبيّة.

وأمّا في صورة الجهل والنسيان ، فهل الأمر كذلك ، أم لا ؟

قال صاحب المدارك رحمه الله : (أمّا صحّة صلاة الجاهل بالغصب فموضع وفاق بين العلماء ، لأنّ البطلان تابع للنهي ، وهو إنّما يتوجه إلى العالم ، والأصحّ أنّ الناسي كذلك لارتفاع النهي بالنسبة إليه ، ولهذا اتّفق الكلّ على عدم تأثيمه ، أمّا الجاهل بالحكم فقد قطع الأصحاب بأنّه غير معذور لتقصيره في التعلّم ، وقوّى بعض مشايخنا المحقّقين إلحاقه بجاهل الغصب لعين ما ذكر فيه ، ولا يخلو من قوّة )[6] .

أقول : أمّا عدم البطلان في صورة النسيان فواضح لِمَا قلناه في مسألة الثوب المغصوب ، من أنّ الناسي تارةً يكون ناسياً للموضوع ، أي الغصب ، وأخرى للحكم ، فإن كان ناسياً للغصب فتارةً يكون هو الغاصب ، وأخرى غيره ، فإن كان هو الغاصب فإنّ الخطاب - وإن لم يمكن متوجّهاً إليه ، فلا يُقال : يا أيّها الناسي وإلّا أصبح ملتفتاً - إلّا أنّه لمّا كان نسيانه منتهياً إلى سُوء اختياره ، وكان التكليف قبل سقوطه بالنسيان متنجزاً في حقّه ، كان ذلك مصحّحاً لاستحقاق العقوبة ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ، وينافيه خطاباً ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون معذوراً في عمله ، إذ يكون الفعل حينئذٍ مبغوضاً بالنهي السّابق السّاقط بالنسيان ، لأنّ النهي السّابق قد أثّر في اتّصافه بالمبغوضيّة.

وعليه ، فلا يمكن التقرّب به.

وأمّا إذا كان الناسي غير الغاصب فعمله صحيح ، لأنّ رفع النسيان في حديث الرفع رفع واقعي ، فلا حرمة في الواقع حتّى يكون الفعل مبغوضاً ، فلا مانع من الصحّة ، هذا بالنسبة للناسي للموضوع.

وأمّا الناسي للحكم : فحكمه حكم الناسي للموضوع.

وأمّا الجاهل : فإن كان الجهل عن تقصير فحكمه حكم العالم ، فلا حاجة للإعادة.

وأمّا إن كان الجهل عن قصور - وهو الذي يكون معذوراً في جهله ، لعدم تنجّز الواقع عليه ، كما في الشّبهات الموضوعيّة البدويّة ، أو الحكميّة بعد الفحص - فالإنصاف : هو البطلان هنا ، لِما ذكرناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي - في علم الأصول ، في مسألة الصّلاة في الدار المغصوبة - أنّ التركيب بين متعلّقهما في خصوص السجود اتحادي ، لا انضمامي ، فيمتنع حينئذٍ جَعْل حكمين في مقام التشريع على موضوع واحد ، ومع تقديم جانب النهي لا يكون هناك أمر بالصلاة.

إن قلت : هو جاهل في المقام ، وجهله منشؤه القصور !

قلت : الجهل لا يرفع الحكم في الواقع ، لِمَا عرفت من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، غاية ما هنالك أنّه معذور ، وغير معاقب.

وأمّا الحرمة : فهي باقية ، ولا يُعقل أن يكون الحرام مصداقاً للواجب ، فالأمر بالصّلاة لا يشمل هذه الصورة ، والله العالم.


[1] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج8، ص286.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص278، أبواب أحكام المساجد، باب56، ح1، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص278، أبواب أحكام المساجد، باب56، ح2، ط آل البيت.
[4] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص154.
[5] مدارك الأحكام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج3، ص218.
[6] مدارك الأحكام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج3، ص219.