الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/11/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مكان المصلَّي

وعليه ، فهو حجّة ، لأنّه مستفاد من ظواهر الألفاظ ، فلو كانت الفحوى الدّالة على الرضا علماً ، أو ظنّاً من هذا القبيل ، فهي حجّة يصحّ التعديل عليها .

وأمَّا إذا لم تكن كذلك بأن لم تكن الأولويّة مستفادة من حاقّ اللفظ ، بلِ استُفيدت من قرينة خارجيّة ، فإنْ أوجبتِ العلم بالرِّضا فلا إشكال حينئذٍ ، لكون العلم حجيّته ذاتيّة ، فمن أيِّ سبب حصل العلم فقد حصل المطلوب ؟ .

وأمَّا إذا لم توجب العلم ، كما هو الأغلب ، فلا يكون الظنّ بالرّضا المستفاد منها حجّة ، لعدم الدليل على حجيّة هكذا ظنّ .

ومنه تعرف المثال الذي ذكره المصنِّف رحمه الله ، وغيره من الأعلام ، فإنّ الإذن بالضيافة والنوم والأكل ، ونحوهما ، لا يدلّ على الصّلاة من حاقّ اللفظ ، إذا الاستفادة متوقفّة على كونِ المستفاد إمّا تمام المعنى على نحو الدّلالة المطابقيّة ، أو كون المستفاد لازمه لزوماً بيِّناً بالمعنى الأخصّ ، بحيث ينتقل الذهن إليه بمجرد حضور المعنى فيه .

وأمَّا الدلالة التضمنيّة : فقد نفيناها في علم الأصول ، وقلنا : إنّ دلالة اللفظ منحصرة بهاتين الدّلاتين فقط ، فراجع .

وعليه ، فاستفادة الإذن في الصّلاة من الإذن والأكل والنوم ، ونحوهما ، ليست من هذا القبيل ، أي لا على نحو الدّلالة المطابقيّة ، وعلى نحو الدلالة الالتزاميّة ، فلا تجوز الصّلاة حينئذٍ في ملك غيره بمجرد إذنه في النوم والأكل ، ونحوهما ، إلّا إذا أوجبت العلم بالرّضا في الصّلاة ، كما تقدّمت الإشارة إليه .

وأمَّا شاهد الحال : وقد مثّل له المصنِّف رحمه الله بالصحاري ، ما لم ينهَ عنها المالك ، أو يتوجّه عليه ضرر بذلك ، وقد مثّل له جماعة من الأعلام بالمضائِف المفتوحة الأبواب ، والحمّامات ، والخانات ، ونحوها .

أقول : إذا أوجبت هذه الشواهد العلم بالرضا فبها ونعمت ، وإن لم توجب إلّا الظنّ ، فهل الظنّ الحاصل منها يُعوّل عليه ، أم لا ؟

المعروف بين الأعلام عدم الدليل على حجيّة الظنّ الحاصل من غير اللفظ ، باعتبار أنّ دلالة الأفعال ليست كدلالة الألفاظ .

لكنَّ الإنصاف : أنّ الفعل إذا كان مجعولاً طريقاً إلى شيء كان كاللفظ في الاعتماد عليه ، لبناء العقلاء على الحجيّة فيه ، كاللفظ ، وذلك كما في فتح أبواب المضائف والمسابل ، فإنّ السيرة جارية في الدخول في المضيف ، والصّلاة فيه ، بمجرد فتح بابه ، كما يجوز الوضوء والاستقاء من السبيل بمجرد فتح بابه أيضاً .

ومن ذلك أيضاً استقرار السّيرة على التصرّف في الأرض المتّسعة والأنهار العظيمة ، ونحوها ، بما لا يتضرّر به المالك ، ولم تُعلم كراهته في هذا التصرّف .

وعليه ، فيكون المنشأ في جواز التصرّف كون سعة الملك أمارة نوعيّة تُوجِب الوثوق والاطمئنان برضا المالك بهذا النحو من التصرُّفات غير المضرَّة بحاله ، فيشكل حينئذٍ التعدّي إلى صورة العلم بكراهته ، لعدم استقرار السّيرة في صورة العلم بالكراهة ، وهي دليل لُبِّيّ لا لسان لها حتّى يتمسّك بها في صورة الشكّ ، هذا كله إذا كان الفعل مجعولاً طريقاً إلى شيء .

وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا عبرة حينئذٍ بالظنّ الحاصل من الفعل ، لعدمِ الدّليل على حجّيته ، ومنه فتح مجالس التعازي ، حيث إنّها ليست مجعولةً طريقاً إلى الصّلاة فيها ، بل إنّما وُضِعت ، وجُعِلت لاستماع التعزية ، والله العالم .

 

قوله : (وتحرم في المكان المغصوب ، ولو كان صحراء ، خلافاً للمرتضى ، والعلّامة أبي الفتح الكراجكي رحمهما الله)[1]

في المدارك أجمع العلماء كافّةً على تحريم الصّلاة في المكان المغصوب مع الاختيار ، وأطبق علماؤنا على بطلانها أيضاً .

وقال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (أمّا المغصوب فتحريم الصّلاة فيه مجمع عليه ، وأمّا بطلانها فَقَوْل الأصحاب ، وعليه بعض العامّة ...[2] ).

أقول : هناك تسالم بين جميع الأعلام قديماً وحديثاً ، وفي جميع الأعصار والأمصار على حرمة الصّلاة تكليفاً في المكان المغصوب ، ولم يعرف الخلاف عن أحد منَّا ، عدا ما نُسِب إلى السَّيد المرتضى رحمه الله ، والعلَّامة أبي الفتح الكراجكي رحمه الله من عدم الحرمة في الصحراء .

ولكن في الواقع ليسا مخالِفَيْن في المسألة ، لأنّهما علَّلا الجواز استصحاباً لِما كانت الحال تشهد به من الإذن فيه .

ومن المعلوم أنّ هذا خارج عن موضوع المسألة ، لأنّ الكلام إنّما هو مع العلم بالغصب ، وعدم الإذن فيه .

وأمَّا بالنسبة للحكم الوضعي - أي صحّة الصّلاة أو بطلانها منه - فأيضاً لم يُعرف الخلاف عن أحد منَّا ، عدا ما نُسِب إلى السِّيد المرتضى والعلَّامة الكراحكي (رحمها الله) ، حيث نُسِب إليهما صحّة الصلَّاة في الصحاري المغصوبة .

ولكن أيضاً هذا ليس خلافاً في المسألة لِما عرفت من تعليلهم الصحّة استصحاباً لِمَا كانت الحال تشهد به من الإذن فيه ، فلا حاجة لإطالة الكلام عن المخالف في المسألة .

نعم ، سنبيِّن - إن شاء الله تعالى - قريباً بالتفصيل الوجه في بطلان الصّلاة في المكان المغصوب .

 

قوله : (ولو أَذِن المالك صحّت لِمَنْ أذن له ، ولا يدخل الغاصب في الإذن المطلق ، بل ولا في العام ، ولو صرّح بالإذن له صحّت مع بقاء الغصبيّة)

ذكرنا هذه المسائل بالتفصيل في مبحث اللباس المغصوب عند قول المصنف رحمه الله : (ولو أذن المالك للغاصب أو لغيره صحت الصلاة ، ولو أذن مطلقا جاز لغير الغاصب )، وبينا أيضا بقاء الغصبية مع الإذن ، فراجع ما ذكرناه ، فإن المسألة من باب واحد ، ولا حاجة للإعادة .

 

قوله : (وتبطل الصّلاة في المكان المغصوب عندنا)

قال المصنِّف رحمه الله في الذكرى : (وأمّا بطلانها فَقَوْل الأصحاب ، وعليه بعض العامة)، وفي المدارك : (وأطبق علماؤنا على بطلانها أيضاً)، وفي الجواهر : (للإجماع محصَّله ، ومحكيه صريحاًَ ، وظاهراً مستفيضاًَ ، إن لم يكن متواتراً).

أقول : أشكل جماعة كثيرة على هذا الإجماع بأنّه مدركي ، أو محتمل المدركيّة ، إذ يُحتمل إستناد المجمعين إلى دعوى اتِّحاد الحركات الصّلاتيّة مع الغصب ، وامتناع اجتماع الأمر والنهي .

وفيه : أنّ المسألة خرجت عن الإجماع المصطلح عليه ، إذ هناك تسالم بين الطائفة على بطلان الصّلاة في الجملة في المكان المغصوب .

وأمّا مخالفة الفضل بن شاذان رحمه الله فعلى فرض تحقّقها لا تضرّ بحصول التسالم .

والمتحصِّل أنّ الدليل الأوَّل لبطلان الصّلاة في المكان المغصوب تامّ ، إلّا أنّه دليل لُبّي يُقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وهو ما سنذكره - إن شاء الله - في الدليل الثاني .

الدليل الثاني : ما ذكره جماعة من الأعلام ، منهم صاحب الجواهر ، وصاحب المدارك (رحمها الله) ، قال الأخير : (لأنّ الحركات والسّكنات الواقعة في المكان المغصوب منهيّ عنها ، كما هو المفروض ، فلا يكون مأموراً بها ، ضرورة استحالة كون الشيء الواحد مأموراً به ، ومنهيّاً عنه ...[3] ).

وحاصله : امتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي ، لاستحالة التكليف هنا ، إذ لا يعقل تصور تحقق طلب الفعل ، وطلب تركه ، في وقت واحد من مكلَّف واحد .


[1] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص152.
[2] الذكرى، الشهيد الأول، ج1، ص149.
[3] مدارك الأحكام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج3، ص217.