الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/05/20

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع :الصَّلاة في جلد الميتة/ فقه الصَّلاة / الصَّلاة في جلد الميتة  /

وعليه، فإذا كان أغلب أهلها من المخالفين الذي يستحلّون الميتة بالدباغة فكيف يمكن حَمْل ما صُنِع في أرض الإسلام في الرواية الآتية على أرض يكون أهلها يستحلون الميتة بالدبغ، وكذا الروايات في جواز الشّراء من سوق المسلمين، فلا يمكن حملها على إرادة غير المستحلّ، والله العالم .

قوله : (وتجوز فيما كان في سوق الإسلام، أو مع مسلم غير مستحلّ، أو مجهول الحال في الاستحلال)[1]
المعروف بين الأعلام هو الحكم بتذكية المأخوذ من يد المسلم، مستحلّاً للميتة بالدبغ، وذبائح أهل الكتاب، أو لا، أخبر بالتذكية أو لا، في السوق كان أو لا، بل ومِنْ يدِ مَنْ لم يُعلم إسلامه إذا كان في بلاد المسلمين، فضلاً عمَّن عُلِم وجُهِل استحلاله، بل والمطروح في أرض المسلمين إذا كان عليه أثر الاستعمال، ككونه نعلاً أو خفّاً، حتّى يعلم أنّه ميتة .
 أقول : ما هو الأصل عند الشكّ في التذكية ؟
 المشهور بين الأعلام، بل أغلبهم إلى أنّ الأصل هو عدم التذكية، فيحكم حينئذٍ ببطلان الصّلاة إذا لم يحرز شرط التذكية، كما يدلّ عليه موثّقة ابن بكير المتقدّمة، حيث ورد فيها : ©إذا علمتَ أنَّه ذكيّ وقد ذكَّاه الذابح® .
 وذهب صاحب الحدائق + إلى صحّة الصلاة في صورة الشكّ في التذكية استناداً إلى قاعدة الحلّ ©إنّ كلَّ شيءٍ فيهِ حلالٌ وحرامٌ فهو لك حلالٌ حتَّى تعرفَ الحرامَ بعينه® .
 ويؤيِّده : موثَّقة سماعة بن مهران (أنّه سأل أبا عبد الله × عن تقليد السَّيف في الصَّلاة، وفيه الفراء، والكِيْمُخْت، فقال : لا بأس، ما لم تعلم أنّه ميتة)[2] ؛ ورواية عليّ بن أبي حمزة (أنّ رجلاً سألَ أبا عبد الله × - وأنا عنده - عن الرّجل يتقلّد السّيف، ويصلّي فيه، قال : نعم، فقال الرّجل : إنّ فيه الكِيْمُخْت ! قال : وما الكِيْمُخْت ! فقال : جلود دواب، منه ما يكون ذكيّاً، ومنه ما يكون ميتة، فقال : ما علمتَ أنّه ميتة فلا تصل فيه)[3]، وهي ضعيفة بعلي بن أبي حمزة ؛ وحسنة جعفر بن محمد بن يونس (أنّ أباه كتب إلى أبي الحسن × يسأله عن الفرو والخُفّ، أَلْبسه وأُصلي فيه، ولا أعلم أنّه ذكيّ، فكتب : لا بأس به)[4].
 ويرد عليه : أنَّ قاعدة الحلّ أصل حُكْمِي، وأصالة عدم التذكية أصل موضوعي حاكم عليه، كما أنّ
وأمّا الرّوايات المؤيِّدة لقاعدة الحلّ فهي محمولة على ما إذا كان أمارة على التذكية،
كيد المسلم، أو سوقه، أو كونه مطروحاً في أرض المسلمين، ونحو ذلك .
 وقد دلَّت الأخبار الكثيرة على أنّ يد المسلم، أو سوق المسلمين، أمارة على التذكية، بل وجود اللحم، أو الجلد، في أرضهم، أمارة عليها :
 منها : صحيحة الحلبي (قال : سألت أبا عبد الله × عن الخفاف التي تباع في السوق، فقال : اِشترِ، وصلِّ فيها، حتّى تعلم أنّه ميت بعينه)[5].
 ومنها : صحيحة البزنطي (قال : سألته عن الرّجل يأتي للسّوق فيشتري جبّة فراء، لا يدري أذكيّة هي، أم غير ذكيّة، أيصلي فيها ؟ فقال : نعم، ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر × كان يقول : إن الخوارج ضيَّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنَّ الدين أوسع من ذلك )[6].
  ومنها : صحيحته الأخرى عن الرّضا × (قال : سألته عن الخفاف يأتي السوق، فيشتري الخفّ، لا يدري أذكي هو أم لا، ما تقول في الصّلاة فيه - وهو لا يدري أيُصلّي فيه - ؟ قال : نعم، أنا أشتري الخفّ من السوق، ويُصنع لي، وأصلّي فيه، وليس عليكم المسألة)[7].
 ومنها : موثّقة أو مصحَّحة إسحاق المتقدِّمة عن العبد الصّالح × (أنّه قال : لا بأس بالصّلاة في الفراء اليماني، وفيما صنع في أرض الإسلام، قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام ؟ قال : إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس)[8].
 ومنها : رواية الحسن بن الجهم (قال : قلت لأبي الحسن × : أعترض السّوق فأشتري خفّاً، لا أدري أذكي هو أم لا، فقال : صلّ فيه، قلت : فالنعل ؟ قال : مثل ذلك، قلت : إنّي أضيق من هذا ! قال : أترغب عمّا كان أبو الحسن × يفعله)[9]، ولكنّها ضعيفة بسهل بن زياد، وبالإرسال .
 ومنها : موثّقة السّكوني عن أبي عبد الله × (أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ × سُئِلَ عَنْ سُفْرَةٍ وُجِدَتْ فِي الطَّرِيقِ مَطْرُوحَةً، كَثِيرٍ لَحْمُهَا وخُبْزُهَا وجُبُنُّهَا وبَيْضُهَا، وفِيهَا سِكِّينٌ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ × : يُقَوَّمُ مَا فِيهَا، ثُمَّ يُؤْكَلُ، لأَنَّه يَفْسُدُ، ولَيْسَ لَه بَقَاءٌ، فَإِذا جَاءَ طَالِبُهَا غَرِمُوا لَه الثَّمَنَ، قِيلَ له : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! لَا يُدْرَى سُفْرَةُ مُسْلِمٍ، أَوْ سُفْرَةُ مَجُوسِيٍّ ! فَقَالَ : هُمْ فِي سَعَةٍ حَتَّى يَعْلَمُوا)[10].
 ثمّ إنّه يظهر من الرّوايات أنّ اعتبار سوق المسلمين ليس لكونه بنفسه كاليد حجَّة معتبرة، بل لكونه أمارة يُستكشف بها كون البايع مسلماً، فلو كان البايع في سوق المسلمين مجهول الحال، أي لم يعلم أنّه مسلم أو كافر، فيُبنى على أنّه مسلم .
 وعليه، فسوق المسلمين أمارة يستكشف بها كون البايع مسلماً فالعبرة أوّلاً، وبالذات إنّما هي بيد المسلم، والسّوق إنّما اعتبر لكونه طريقاً للحجّة، لا لكونه بنفسه حجّة، فلا عبرة بسوق المسلمين إذا علم كون البايع فيه كافراً .
 ثمّ إنّه يُستفاد أيضاً من مصحَّحة إسحاق المتقدِّمة : أنّ الصنع في دار الإسلام قاطع لأصالة عدم التذكية، وإن أُخِذ من كافر، لأنّه مسبوق بيد  المسلم بحكم الغلبة، أي الصنع في دار الإسلام يكشف عن أن يد الكافر مسبوقة بيد المسلم، فما يؤخذ حينئذٍ من يد الكافر محكوم بالتذكية إذا صنع في دار الإسلام .

ثمّ إنّ المشهور بين الأعلام أن المأخوذ من يد المسلم، ومن سوقهم، أو المطروح في أرضهم، إنّما يُحْكم عليه بالتذكية إذا كان عليه أثر الاستعمال في مشروط الطّهارة والتذكية، كالصّلاة فيه، ونحو ذلك، كالبيع بناءً على عدم جواز بيع الميتة، فلا يكفي مجرد كونه تحت يد المسلم، أو استعماله في غير مشروط الطهارة والتذكية، مثل أن يُتخذ ظرفاً للنجاسة، أو فراشاً لموضعها كالكنيف، ولا يكفي أيضا ًكونه في يد المسلم مع العلم بأنه يقصد إلقاءه في المزبلة، أو يشكّ في ذلك .
 وقد يُستدلّ لذلك : برواية إسماعيل بن عيسى (قال : سألتُ أبا الحسن × عن جلود الفراء يشتريها الرّجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البايع مسلماً غير عارف، قال : عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه)[11].
 وفيها أوَّلاً : أنّها ضعيفة بسعد بن إسماعيل بن عيسى وأبيه، فإنّهما مجهولان .
 وثانياً : لا يظهر منها أنّ المأخوذ من سوق المسلمين، بل يحتمل أن يكون قوله × : (إذا رأيتم المشركين يبيعون) قرينة على كون سوق الجبل مشتركاً بينهم .
 والخلاصة : أنّه لا يُشترط أن يكون المأخوذ من يد المسلم، أو من سوقهم، أو الموجود في أرضهم، أن يكون عليه أثر الاستعمال بمشروط الطّهارة والتذكية، بل يُستفاد من موثّقة السّكوني المتقدّمة أنّه يُحكم عليه بالتذكية ولو كان عليه أثر استعمال الكفار، فإنّ وَضْع السّكين في السّفرة أمارة على كون صاحبها من المجوس، لأنّ المعروف عندهم أنّهم يقطعون الخُبْز بالسّكين .
 وبالجملة، فيكفي كونه في يد المسلم، أو سوقهم، أو مطروحاً في بلادهم، وإن لم يكن أثر الاستعمال، وإنّ مجرد الأخذ من يد المسلم، أو سوقهم، أو الاستيلاء عليه، وإن كان المستولي غير إنسان، فيُحكم بالتذكية .
 ومن هنا لو جاءت هِرّة وفي فمها لحم يحكم عليه بالتذكية إن أخذته من يد المسلم، أو من سوقهم، أو من أرض يغلب عليها المسلمون .
 ثمّ إنّه يظهر من رواية محمّد بن الحسن الأشعري اعتبار إخبار البائع بالتذكية في الحكم بها (قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني × : ما تقول في الفرو يُشترى من السّوق ؟ فقال : إذا كان مضموناً فلا بأس)[12].
 وفيها أوَّلاً : أنّها ضعيفة بسهل بن زياد، وبجهالة محمّد بن الحسين (الحسن خ ل) الأشعري .
 وثانياً  - مع قطع النظر عن ذلك - : يتعيّن حملها على الاستحباب بقرينة ما دلّ على عدم وجوب السّؤال في الرّوايات المتقدّمة، والله العالم .


[1] الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهید الاول، ج1، ص150.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج24، ص90، أبواب الذبح، باب38، ح1، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، ص491، أبواب النجاسات، باب50، ح2، ط آل البيت.
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج4، ص456، أبواب لباس المصلّي، باب55، ح4، ط آل البيت.
[5] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج4، ص427، أبواب لباس المصلّي، باب38، ح2، ط آل البيت.
[6] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج4، ص456، أبواب لباس المصلّي، باب55، ح1، ط آل البيت.
[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، ص492، أبواب النجاسات، باب50، ح6، ط آل البيت.
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج4، ص456، أبواب لباس المصلّي، باب55، ح3، ط آل البيت.
[9] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، ص493، أبواب النجاسات، باب50، ح9، ط آل البيت.
[10] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج24، ص90، أبواب الذبح، باب38، ح2، ط آل البيت.
[11] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، ص492، أبواب النجاسات، باب50، ح7، ط آل البيت.
[12] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، ص493، أبواب النجاسات، باب50، ح10، ط آل البيت.