الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/03/15

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : فقه الصَّلاة / استحباب قضاء النوافل /

قوله : (ولو أوصى الميت بقضائها سقطت عنه)
قال المصنِّف  (رحمه الله) في الذكرى : (لو أوصى الميّت بقضائها عنه بأجرة من ماله، أو أسندها إلى أحد أوليائه، أو إلى الأجنبي، وَقَبِل، فالأقرب سقوطها عن الولّي، لعموم وجوب العمل بما رسمه الموصي)[1].
 أقول : لا إشكال في نفوذ الوصيّة بذلك، لشمول عموم نفوز الوصيّة لهذا الأمر، إذ هو سائغ في نفسه بعد أن قلنا : بجواز التبرّع في النيابة عن الأموات، ولقد أجاد ابن طاووس  (رحمه الله) حيث قال : (لو أوصى الميّت بالصّلاة عنه وجب العمل بوصيّته، لعموم : فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، ولأنَّه لو أوصى ليهوديٍّ، أو نصرانيٍّ، لوجب إنفاذ وصيته، فكيف الصَّلاة المشروعة ؟!).
 وبالجملة، فإنَّ هذا لا كلام فيه، وإنَّما الكلام في سقوط الوجوب عن الوليّ .
 ووجه الإشكال : أنّه بعد فرض وجوب العمل بالوصيّة كيف يمكن الجمع بينه وبين الوجوب على الولي عيناً، باعتبار أنّ الفائتة الواحدة لا تُقضى مرتين، ولا يجب فعلها عيناً على مكلّفين، وإرجاعه إلى الوجوب الكفائي مخالف لظاهر الدليلَيْن .
 وعليه، فيدور الأمر بين الأخذ بظاهر دليل وجوبه على الوليّ، وظاهر دليل نفوذ الوصيّة، ويتعيّن تقديم دليل نفوذ الوصيّة، لأنّ وجوبها ثابت بالعنوان الثانوي، وهو حاكم على العنوان الأولي، باعتبار أنّ وجوب القضاء على الوليّ حكم أوليّ كما لا يخفى .
 ولكنَّ الإنصاف : أنّ دليل نفوذ الوصيّة إنّما يكون مقدَّماً فيما لو كان هناك تنافٍ بين دليل نفوذ الوصيّة، وبين الوجوب على الوليّ، كما لو كان متعلّق الإجارة هو تفريغ ذمّة الميّت، والولي مأمور بتفريغ ذمّته، فهنا يصحّ القول بكون دليل نفوذ الوصيّة حاكماً باعتبار أنّه حكم ثانوي .
 وأمَّا لو كان متعلّق الإجارة ذات العمل، لا تفريغ ذمّة الميّت فلا تنافي بين وجوب العمل على الأجير وبين الوجوب على الوليّ، وبالتالي لا مقتضى للحكومة، إذ فائتة الميت يمكن إتيانها من الأجير بعد إتيان الوليّ لها، وذلك من باب رجاء المطلوبيّة، لاحتمال الفساد واقعاً في عمل الولي لاشتماله على خلل لم يعلم به، ويكون العمل من الأجير حينئذٍ صحيحاً ومشروعاً، وهذا لا يرجع إلى تفريغ ذمّة الميّت مرتين حتّى يُقال : إنّه لا يصحّ، والله العالم .

 قوله : (ووجب إخراجها من ثلث ماله مع عدم الإجازة، وثيل هي كالحج من أصل المال، ولو لم يوص بها، ولا بأس به، وقد ذكرنا الروايات الدالة على القضاء عن الميت لما فاته من الصلوات، وأحكام ذلك في الذكرى)
قال المصنِّف  (رحمه الله) في الذكرى : (لو قلنا بعدم قضاء الوليّ ما تركه الميّت عمداً، أو كان لا ولّي له، فإن أوصى الميّت بفعلها من ماله أُنفِذ، وإن ترك فظاهر المتأخِّرين من الأصحاب عدم وجوب إخراجها من ماله، لعدم تعلّق الغرض بغير البدن، خالفناه مع وصيّة الميّت، لانعقاد الإجماع عليه، بقي ما عداه على أصله ؛ وبعض الأصحاب أوجب إخراجها كالحج، وصبّ الأخبار التي لا ولي فيها عليه).
 ثمَّ ذكر المصنِّف  (رحمه الله) حسنة زرارة الطويلة الواردة في الزّكاة، والتي فيها (قُلْتُ لأبي عبد الله  (عليه السلام) : إِنَّ أَبَاكَ قَالَ : مَنْ فَرَّ بِهَا مِنَ الزَّكَاةِ فَعَلَيْه أَنْ يُؤَدِّيَهَا، قَالَ : صَدَقَ أَبِي، عَلَيْه أَنْ يُؤَدِّيَ مَا وَجَبَ عَلَيْه، ومَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْه فَلَا شَيْءَ عَلَيْه فِيه، ثُمَّ قَالَ لي : أرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً أُغْمِيَ عَلَيْه يَوْماً، ثُمَّ مَاتَ فَذَهَبَتْ صَلَاتُه، أكَانَ عَلَيْه - وقَدْ مَاتَ - أَنْ يُؤَدِّيَهَا ؟ قُلْتُ : لَا، قال : إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَفَاقَ مِنْ يَوْمِه )[2]
 ثمَّ قال المصنِّف  (رحمه الله) : (فظاهره أنَّه يؤدّيها بعد موته، وهو إنَّما يكون بولِيِّه، أو ماله، فحيث لا وليّ تحمل على المال، وهو شامل لحالة الإيصاء وعدمه ) .
 أقول : هذه الحسنة وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى القاضي إلَّا أنّها محمولة على الأخبار الدَّالة على أنَّ القضاء إنَّما هو على أولى النَّاس بميراثه .
 نعم، إذ أوصى بالقضاء عنه فتخرج من ثلث ماله إلا إذا أجاز الورثة أن تخرج من مالهم، ومع عدم الوصيّة لا تخرج من أصل المال إذ لا دليل عليه، لأنّ ما ثبت من الأدلّة على الخروج من أصل المال إنّما هو الديون المالية وفريضة الحجّ .
 وأمَّا الديون المالية فيكفي قوله تعالى : (من بعد وصية يوصى بها أو دين ... )، أي : الميراث بعد الوصية، وبعد الدَّين .
 وأمَّا الأخبار فكثيرة :
 منها : معتبرة السَّكوني عن جعفر عن أبيه  (عليه السلام) (قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنَّ أوَّل ما يبدأ به من المال الكفن، ثمَّ الدين، ثمَّ الوصيَّة، ثمَّ الميراث)[3].
 وأمَّا الحجَّ فيدلّ على خروجه من أصل المال روايات كثيرة ذكرناها في باب الحجّ، منها موثَّقة سماعة (قال : سألتُ أبا عبد الله  (عليه السلام) عن الرَّجل يموت، ولم يحجّ حجّة الإسلام، ولم يوصِ بها وهو مُوسِر، فقال : يحجّ عنه من صلب ماله لا يجوز غير ذلك)[4].
 وأمَّا غير ذلك - ومنه الصَّلاة والصَّوم - فلا دليل على وجوب إخراجه من أصل المال ؛ نعم، نقل المصنِّف  (رحمه الله) عن بعض الأصحاب إخراجه من أصل المال .
 وقد يستدل بغير حسنة زرارة المتقدِّمة : بأنَّ الصَّلاة دَيْن، ودَيْن الله أحقّ أن يُقضى، وأمَّا الصغرى - أي : إن الصلاة دين - فقيل يدل عليه عدَّة من الأخبار :
 منها : رواية زرارة عن أبي جعفر  (عليه السلام) (قال : قلتُ له : رجل عليه دَيْن من صلاةٍ، قام يقضيه، فخاف أن يدركه الصبح، ولم يصلّ صلاة ليلته تلك، قال : يؤخِّر القضاء، ويصلّي صلاة ليلته تلك)[5].
 وفيها أوَّلاً : أنَّها ضعيفة السند بالإرسال، لأنَّ ابن طاووس  (رحمه الله) لم يذكر طريقه في كتابه غياث سلطان الورى لسكان الثرى إلى حريز .
 وثانياً : أنَّ إطلاق الدَيْن على الصَّلاة لم يقع في كلام الإمام  (عليه السلام) إنَّما وقع في كلام زرارة .
 ويحتمل جدّاً أن يكون إطلاق الدَيْن على الصَّلاة مجازاً توسّعاً، لا حقيقة .
 ومنها : رواية حماد بن عيسى عن أبي عبد الله  (عليه السلام) (في إخباره عن لقمان، وإذا جاء وقت الصَّلاة فلا تُؤخِّرها لشيء، صلِّها واسترح منها، فإنَّها دَيْن)[6]، ورواها أيضاً ابن طاووس  (رحمه الله) في كتابه غياث سلطان الورى، وهي ضعيفة سنداً ودلالةً .
 أمَّا سنداً : فهي ضعيفة بكلا طريقَيْها، أمَّا الأوَّل فبالقاسم بن محمَّد الأصفهاني، فإنَّه مجهول، وأمَّا الطريق الثاني فبالإرسال .
 وأمَّا دلالةً : فإنّ الإطلاق وقع في كلام لقمان، لا في كلام الإمام  (عليه السلام)، ومجرد حكاية الإمام  (عليه السلام) لذلك لا يكشف عن إمضائه لهذا الإطلاق .
 وعليه، فلم يثبت إطلاق الدَّيْن حقيقةً على الصَّلاة .
 ثمَّ إنَّه على فرض ثبوت الإطلاق إلَّا أن الكبرى غير ثابتة، وهي أنَّ كلّ ما يطلق عليه الدَّيْن يخرج من الأصل، إذ غاية ما يمكن أن يستدلّ للكبرى بدليلَيْن :
 الدليل الأوَّل : رواية الخَثْعَمِيَّة (لَمَّا سألتْ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت : يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ! إنَّ أبي أدركته فريضة الحجّ شيخاً زَمِناً، لا يستطيع أن يحجّ، إنّ حججت عنه أينفعه ذلك ؟ فقال لها : أرأيتِ لو كان على أبيك دين، فتقضيه، أكان ينفعه ذلك، قالت : نعم، قال : فدين الله أحقّ بالقضاء)[7].
 وفيها أوَّلاً : أنَّها ضعيفة السند، حيث لم ترد من طرقنا، وإنَّما هي مرويّة بالأصل في كتب العامَّة .
 وثانياً : على فرض كون إطلاق الدَّين على الحجّ الذي هو واجب بدني إطلاقاً حقيقيّاً، وليس إطلاقاً مجازيّاً ادعيائيّاً توسعيّاً، إلَّا أنَّه لا يستفاد منها الإخراج من الأصل، وإنَّما مفادها أنّ دين الله سبحانه وتعالى أحقّ وأولى بصحّة قضائه، فيكون ذلك ردّاً على ما اشتُهر من أهمية حقوق الناس من حقوق الله تعالى .
 وبالجملة، فلا تدلّ إلّا على الاهتمام بذلك، وهذا يكون من وظيفة الوليّ، ولا تدلّ على الإخراج من الأصل إذا لم يوصِ بذلك .
 الدليل الثاني : إطلاق الدَّيْن في قوله تعالى : } مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ... {[8].
 وفيه : أنَّ المراد بالدَّين - والله العالم - هو الدَّين المالي، إذ هو المناب للإخراج من التركة قبل التقسيم، وإن شئت فقل : إنه يعتبر كون الخارج - وهو الدين - والمخرج عنه - وهو التركة - أن يكونا من سنخ واحد، كما في الديون المالية الخارجة، والمستثناة من التركة التي هي مال .
 وأمَّا الواجبات البدنيَّة - كالصَّلاة والصَّوم ونحوهما - : فليست مسانخة للتركة، فلا معنى لإخراجها، واستثنائها من التركة .
 وأمَّا حجة الإسلام : فإنَّها وإن كانت من الواجبات البدنيَّة، إلَّا أنَّ إخراجها من أصل المال كان للنصِّ الخاصِّ، ولولا ذلك لكان مثلها مثل الصَّلاة والصَّوم ونحوهما، والله العالم .

كان الانتهاء منه عصر يوم السبت 13 صفر سنة 1436 هجرية، الموافق لـ 6 كانون أول، سنة 2014 مـ، وذلك في بيروتَ الضاحيَّة الجنوبيَّة، منطقة الشياح، الأقل حسن بن علي الرميتي العاملي عامله الله بلطفه الخفي، فإنَّه أكرم المسؤولين، وأجود المعطين، وأرحم الراحمين، وخير الموفِقين .




[1] الذكرى، الشهيد الأول، ص139.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج9، ص161، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب11، ح5، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج18، ص345، أبواب الدين القرض، باب13، ح2، ط آل البيت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج11، ص72، أبواب وجوب الحج، باب28، ح3، ط آل البيت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج4، ص286، أبواب المواقيت، باب61، ح9، ط آل البيت.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص282، أبواب آداب السفر إلى الحج وغيره، باب52، ح1، ط آل البیت.
[7] بحار الأنوار، للمجلسي الثاني، ج85، ص315، سنن أبي داوود، ج1، ص286، وتيسير الوصول، ج1، ص331، وسنن البيهقي، ج4، ص328.
[8] نساء/سوره4، آیه11.