الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/03/03

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : فقه الصَّلاة / صلاة القضاء وأحكامها /

قوله : (والجهر والإخفات كما فات، ليلاً كان القضاء أو نهاراً )
قال المصنِّف  (رحمه الله)  في الذكرى : (تقضي الجهريّة والإخفاتيّة كما كانت تؤدَّى، ليلاً كان أو نهارا، لِتحقق المماثلة، وَلِنَقْلِ الشيخ فيه إجماعنا)[1].
 وقدِ استدلّ أيضاً : بعموم التشبيه الواقع في قوله (صلى الله عليه وآله) : (من فاتته فريضة فَلْيقضها كما فاتته)، فإنّ مقتضى عموم التشبيه مساواة القضاء للفائتة في الكيف أيضاً، بأن يأتي بها في خارج الوقت، مثل ما أريد منه في الوقت، فيجب أن يقضي الصَّلاة الإخفاتيَّة إخفاتاً، ولو في اللّيل، والجهريّة ولو في النّهار ؛ ولكنّك عرفت أنّ الحديث نبوي ضعيف، لا يصحّ الاعتماد عليه .
 وقد استدل عليه أيضاً : بحسنة زرارة المتقدِّمة (قال : قلتُ له : رجل فاتته صلاة من صلاة السفر فذكرها في الحضر، قال : يقضي ما فاته كما فاته إن كانت صلاة السفر أدّاها في الحضر مثلها، وإن كانت صلاة الحضر فليقض في السفر صلاة الحضر، كما فاتته)[2].

 ولكن قد يُقال : إنّ الحسنة ناظرة إلى الكيفيّة من حيث العدد، فإن كان الفائت ركعتين في السفر قضاها في الحضر كذلك، وإن كان الفائت أربع ركعات في الحضر قضاها في السفر كذلك، وليست ناظرة إلى المماثلة من كل شيء .
 والإنصاف : أنّ هناك تسالماً بين الأعلام على قضاء الجهريَّة والإخفاتيَّة، كما فاتت، سواء كان القضاء ليلاً أو نهارا ً.

قوله : (ولو فاته ما لم يُحْصِه تحرّى ظنّ البراءة، ولو علم تعدّد الفائتة المعيّنة كرَّرها حتّى يغلبَ الوفاء)
لا يخفى أنّ حكم ما لو علم تعدّد الفائتة المعينة، كصلاة الصبح مثلاً، هو نفسه حكم ما لو فاته ما لم يحصه .
 ومن هنا قال المصنِّف  (رحمه الله)  في الذكرى : (لو فاته ما لم يحصه قضى حتّى يغلب على الظنّ الوفاء تحصيلاً للبراءة، فعلى هذا لو شكّ بين عشر صلواتٍ وعشرين قضى العشرين، إذ لا تحصل البراءة المقطوعة إلَّا به مع إمكانها، وللفاضل : وجه بالبناء على الأقل، لأنَّه المتيقّن، ولأنّ الظاهر أنّ المسلم لا يترك الصَّلاة، وكذا الحكم لو علم أنّه فاتته صلاة معينة أو صلوات معينة، ولم يعلم كميتها فإنّه يقضي حتّى يتحقق الوفاء، ولا يبني على الأقل إلَّا على ما قاله رحمه الله تعالى) [3].
 أقول : هناك ثلاثة أقوال في المقام :
 الأول : يصلّي حتّى يظن بفراغ الذمة، وهو المراد من قولهم : حتّى يغلبَ على الظنّ الوفاء، أي حتّى يصير الوفاء مظنوناً، وقد نسب الشيخ الأنصاري  (رحمه الله)  هذا القول في أصوله إلى المشهور بين أصحابنا رضوان الله عليهم، بل المقطوع به من المفيد  (رحمه الله)  إلى الشهيد الثاني  (رحمه الله)  .
 وعليه، فلو لم يعلم كميّة ما فات قضى حتّى يظنّ الفراغ .
 الثاني : يكرّر الصّلاة حتّى يحصل منه العلم بالفراغ، واختاره صاحب الحدائق  (رحمه الله)  قال : (ووجه ذلك أنّه لا ريب أنّ الذمّة مشغولة بالفريضة بيقين، ولا تبرأ إلّا بيقين الأداء من جميع ذلك، وحيث كانت الفريضة في هذه الصورة المفروضة غير معلومة المقدار لكثرتها فيقين البراءة لا يحصل إلّا بالقضاء بما يقابل الكثرة الفائتة، فإن كان الفائت قد بلغ في الكثرة إلى حدٍّ لا يدري ما قدره فينبغي أن يكون القضاء كذلك ... ) [4].
 القول الثالث : الاقتصار على القدر المتيقّن، واختاره المحقّق الأردبيلي  (رحمه الله)، وصاحب المدارك  (رحمه الله)، وقوّاه الشيخ الأنصاري  (رحمه الله)، وفاقاً لغير واحد من متأخّري المتأخّرين، بل لعلّه الأشهر أو المشهور بينهم .
 أمّا القول الأوّل : فقد استدلّ له بقاعدة الاشتغال، كما يظهر من كثير منل الأعلام، قال العلّامة  (رحمه الله)  في التذكرة : (لو فاتته صلوات معلومة العين غير معلومة العدد صلّى من تلك الصّلوات إلى أن يغلب في ظنّه الوفاء لاشتغال الذمّة بالفائت، فلا يحصل البراءة قطعاً إلّا بذلك، ولو كانت واحدة ولم يعلم العدد صلّى تلك الصّلوات مكرّراً حتّى يظنّ الوفاء ... )[5].
 وفيه : ما لا يخفى، فإنّ مقتضى هذه القاعدة هو وجوب تحصيل القطع بالفراغ مع الإمكان فهي تناسب القول الثاني، لا الأوّل الذي يكتفى فيه بالظنّ بالفراغ .
 وقدِ استدلّ أيضاً للقول الأوّل بعدّة روايات :
 منها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله  (عليه السلام)  (قال : قلت له : أخبرني عن رجلٍ عليه من صلاة النوافل ما لا يدري ما هو مِنْ كثرتها، كيف يصنع ؟ قال : فليصلِّ حتّى لا يدري كم صلّى من كثرتها، فيكون قد قضى بقدر علمه ( ما علمه ) من ذلك)[6].
 وجه الاستشهاد : أنّ الاهتمام بالنافلة بمراعاة الاحتياط يوجب ذلك في الفريضة بطريق أولى، وعليه بالإتيان بالصّلاة حتّى لم يدرِ كم صلَّى من كثرتها إن لم يستلزم القطع بالمساواة فلا أقلّ يستلزم الظنّ .
 وفيه أوَّلاً : منع الأولويّة، فإنّ في قضاء الواجب كلفةً وإلزاماً بخلاف المندوب، فإنّه مبني على التوسعة والترخيص، والأمر بالاحتياط فيه إرشاد إلى ما هو الأصلح بحاله من غير إلزام .
 وثانياً : أنّ الإتيان بالصّلاة حتّى لم يدرِ كم صلّى لا يستلزم القطع بالمساواة، ولا الظنّ بها .
 نعم، الاحتمال موجود، كما هو ظاهر .
 ومنها : حسنة مرازم (قال : سأل إسماعيل بن جابر أبا عبد الله  (عليه السلام)  فقال : أصلحك الله ! إنّ علي نوافل كثيرة، فكيف أصنع ؟ قال : اِقضها، فقال له : إنّها أكثر من ذلك، قال : اِقضها، قلتُ (قال خ ل ) : لا أحصيها، قال : توخ ... )[7]، والتوخّي هو الظنّ .
 وفيه : أنّ موردها النافلة، فلا يلزم من الاكتفاء فيها بالظنّ الاكتفاء به في الفريضة .
ومنها : رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر  (عليه السلام)  (قال : سألته عن الرجل نسي ما عليه من النافلة، وهو يريد أن يقضي كيف يقضي ؟ قال : يقضي حتّى يرى أنّه قد زال على مَنْ يرى عليه، وأتمّ)[8]، قوله : (حتّى يرى)، أي حتّى يظنّ .
وجه الاستدلال : هو أولويّة الفريضة بذلك منها .
 وجوابه : هو الجواب عن حسنة مرازم، مضافاً لضعف السند بعبد الله بن الحسن، فإنَّه مهمل .
 ومنها : رواية إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله  (عليه السلام)  (قال : سألته عن الصلاة تجتمع علي، قال : تحرَّ واقضها)[9]، والتحري هو الظن .
 وفيه أوَّلاً : أنَّها ضعيفة السند بمحمد بن يحيى المعاذي .
 وثانياً : أنَّ المراد بالصَّلاة التي تجتمع عليه هي النافلة، وذلك لأنَّ التعبير بالفعل المضارع يدلّ على تكرّر ذلك منه، بخلاف ما لو قال : اجتمعت علي، فإنَّه لا يدلّ على الاستمرار .
 وعليه، فإنَّ إسماعيل بن جابر المعروف بين الأعلام، والذي هو جليل القدر عظيم الشأن، كيف تجري العادة عنده على ترك الفريضة حتّى تجمع عليه وتصير كثيرة، فلأجل هذه القرينة نحمل الصَّلاة على النافلة .
 وأمَّا الاستدلال بأولوية الفريضة بذلك : ففيه ما عرفت .
 والخلاصة : أنَّ القول الأوّل غير تامّ .
 وأمَّا القول الثاني : فقد يستدلّ له بأمرين الأوّل استصحاب اشتغال الذمّة بالقضاء إلى أن يقطع بالفراغ الثاني قاعدة الاشتغال، فإنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني .
 وفيه : أنَّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو لم ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشكّ بدوي في الزائد عليه، ولا إشكال أنّه منحلّ كما تقرّر ذلك في علم الأصول، بل ذكرنا هناك جريان البراءة في الأقل والأكثر الإرتباطيين، فضلاً عن الأقلّ والأكثر الاستقلاليين، كما هنا، فإنّ القدر المتيقّن هو الذي علم اشتغال ذمّته به، وتحصل البراءة منه بفعله، وما زاد عليه لم يعلم اشتغال الذمّة به حتّى الفراغ عنه، وبذلك يتعيّن القول الثالث، أي الاقتصار على القدر المتيقّن، والله العالم بحقائق أحكامه .

 قوله : (ولو كانت الفائتة غير معلومة العين، ولا العدد، صلَّى الحاضر صبحاً ومغرباً ورباعيّة مردَّدةً حتَّى يغلبَ الوفاء، والمسافر مغرباً وثنائيَّةً)
حكمها حكم المسألة المتقدّمة لاطِّراد الجميع إذ الملاك واحد.
نعم، بناء على وجوب الترتيب يكرّر حتّى يحصل التفريغ القطعي.


[1] الذكرى، الشهيد الأول، ص136.
[2] وسائل الشيعة، شیخ حر العاملی، ج8، ص268، من أبواب قضاء الصّلوات، باب6، ح1، ط آل البيت.
[3] الذكرى، الشهيد الأول، ص137.
[4] الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني (صاحب الحدائق)، ج11، ص21.
[5] تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ج2، ص361.
[6] وسائل الشيعة، شیخ حر العاملی، ج4، ص79، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب19، ح4، ط آل البیت.
[7] وسائل الشيعة، شیخ حر العاملی، ج4، ص78، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب19، ح1، ط آل البیت.
[8] وسائل الشيعة، شیخ حر العاملی، ج4، ص79، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب19، ح3، ط آل البیت.
[9] وسائل الشيعة، شیخ حر العاملی، ج4، ص79، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها، باب19، ح2، ط آل البیت.