الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/03/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : فقه الصَّلاة / صلاة القضاء وأحكامها /
قوله : (ولوِ اشتبه ترتيبها صلَّى بحسب ظنّه أو وهمه، ولو انتفيا صلَّى كيف شاء)
قد عرفت سابقاً أنّه لا دليل قويّ على اعتبار الترتيب في قضاء الفوائت غير المرتّبة في نفسها، وأمَّا على القول باشتراط الترتيب فهل يُشترط حتّى في حال الجهل به، فيجب من باب المقدمة العلمية الإتيان بما يقطع معه بحصول الترتيب، أم يسقط الترتيب عند الجهل به ؟ .
 ذهب جماعة من الأعلام إلى السقوط، كما في الألفيّة وشرحها للمحقِّق الثاني  (رحمه الله)، واللمعة والروضة والمدارك والذخيرة والكافية والمفاتيح، بل في الرياض : نسبته إلى الأكثر، ونُسِب في موضع من كشف الالتباس إلى الظاهر من المذهب، وذهب المصنِّف  (رحمه الله) في الذكرى والبيان إلى الوجوب مع الظنّ، بل مع الوهم، كما هنا - أي : في الدروس -، وذهب جماعة من الأعلام إلى الوجوب في حال الجهل، قال العلَّامة (رحمه الله) في التذكرة : (أنَّ الأقرب فِعْله حال الجهل به)، بل جزم به في الإرشاد، وفي الرياض : (لا ريب أنَّه أحوط وأولى) .
 أقول : قدِ استدلّ المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى لسقوط اعتبار الترتيب في حال الجهل بدليلين :
 الأوَّل : أنَّه يلزم منِ اعتبار الترتيب في حال الجهلِ التكليفُ بالمحال .
 الثاني : يلزم منه الحرج، أي : يلزم من تكرار الصَّلاة حتّى يحصل الترتيب الحرج، وهو منفي في الشريعة .
 وفيه : أمَّا لزوم المحال فهو متوقّف على القول باعتبار الجزم بالنيّة، إذ لا يمكن الجزم بالنيّة مع الجهل بالترتيب، ولكنّك عرفت سابقاً عدم اعتبار الجزم بالنية، وعلى فرض اعتباره فهو مخصوص في حال التمكّن، لا في حال العجز، كما هنا .
 وأمَّا دليله الثاني، وهو لزوم الحرج من تكرار الصلاة حتّى يحصل الترتيب .
 ففيه أوَّلاً : أنَّ الحرج إنَّما هو فيما إذا كثرت الفوائت، بخلاف ما لو قلت : لفائيتين أو ثلاث أو أربع مثلاً، فلا بدّ من التفصيل حينئذٍ بين ما لو توقّف الجزم بحصول الترتيب على التكرار بمقدار يشقّ تحمله في العادة، وما لا يبلغ إلى هذا الحد، ودليل الحرج إنّما ينفي الاحتياط بالتكرار في الصُّورة الأولى دون الثانية، ودعوى عدم القول بالفصل، كما عن بعضٍ، لا يعتدّ بها كما لا يخفى .
 وثانياً : قد يُقال : يمنع لزوم الحرج في التكرار المحصِّل للترتيب، ضرورةَ كونِه كمَنْ فاته مقدار ذلك العدد الذي يحصل به الجزم بالترتيب يقيناً، الذي من المعلوم عدم سقوط القضاء عنه لمشقَّته .
 وفيه : أنَّ هذا الكلام على إطلاقه في غير محلِّه، فإنَّه لا إشكال في لزوم الحرج في بعض صِوَرِه .
 وثالثاً : قد يُقال بعد تسليم الحرج : بعدم شمول دليل نفي الحرج لمثله، كما عن صاحب الجواهر (رحمه الله)، إذ المراد نفيه في الدِّين، أي : في الأحكام الشرعية، لا فيما يوجبه العقل لدى الاشتباه مقدمة للقطع بالامتثال .
 والإنصاف : أنّ هذا الكلام لا بأس به، إذ المنفي في الآية الشريفة : (وما جعل عليكم في الدين من حرج ... ) هو الحكم الحرجي، أي : الذي يلزم من تشريعه الحرج، لا كيف ما كان، وتوضيحه في علم الأصول .
 وأمَّا مَنْ ذهب إلى اعتبار الترتيب حتّى في صورة الجهل فقدِ استدل بالرِّوايات المستدلّ بها على اعتبار الترتيب، وقد تقدَّمت .
 والمهمّ منها حسنةُ زرارة المتقدِّمة، إذ غيرها من الرِّوايات مورده صورة العلم، فلا يمكن الاستدلال بها في حال الجهل .
 وأمَّا حسنة زرارة : فهي مطلقة، سواء كان المكلَّف عالماً بالترتيب، أم كان جاهلاً به، فيكون اللازم في مورد الجهل الاحتياط بالتكرار إلى أن يحصل العلم بالترتيب .
 وأمَّا القول : بانصراف الحسنة إلى صورة العلم - باعتبار أنّ الخطاب بقوله  (عليه السلام)  : (اِبدأ بأوّلهن) - إنّما توجَّه إليه بعد فرض تمكّنه من الإتيان بقضاء الصَّلوات التي عليه مرتبة مبتدأ بأولاهن بأذان وإقامة، ثمَّ بإقامةٍ إقامة، حتّى يأتي على آخرها، ولا يكون ذلك إلَّا مع العلم التفصيلي بها وبترتبها[1].
ففيه : أنَّه يمكن الامتثال بدون العلم التفصيلي بالترتيب، ولا يشترط الجزم بالنيّة حتّى مع إمكانه، فضلاً عن تعذره .
 وبالجملة، فليس حال هذه المسألة إلَّا كحال سائر أدلّة الأحكام التي لا مدخليّة للعلم والجهل فيما يستفاد منها .
 وقد يُستدلّ لاعتبار الترتيب حتّى في صورة الجهل باستصحاب : وجوبه الثابت له قبل عروض النسيان .
 وفيه : أنه من استصحاب الحكم الكلي، وقد عرفت ما فيه .
 والإنصاف : أنَّه لو قلنا باشتراط الترتيب في قضاء الفوائت اليومية لقلنا به مطلقاً، بلا فرق بين صورتي العلم والجهل، ولكنّك عرفت أنّ الأقوى عدم الاشتراط، ومع هذا فالأحوط استحباباً رعاية الترتيب مهما أمكن، وهو يحصل فيما لو كان الفائت فريضتين كالظّهرين مثلاّ من يومين مع جهل السابقة أن يصلّي ظهراً بين عصرين أو عكسه، ولو جامعهما مغرب صلّى الثلاث قبل المغرب وبعدها، ولو كان معها عشاء من ليلة أخرى صلّى السبع قبلها وبعدها .
 ولو انضمّ إليها صبح صلّى الخمس عشرة قبلها وبعدها، وهكذا كلّما زيدت واحدة يتضاعف التكرار بزيادة الواحدة على النهج المزبور، فيحصل الترتيب حينئذٍ لا محالة، لكنَّ الترتيب بهذه الكيفيّة عند كثرة الفوائت فيه حرج، بل قد يكون تحصيله مستحيلاً، كما لو بلغ عدد الفوائت الألف مثلاً، فإنّه لو عاش الإنسان أضعاف ما مضى من عمره، واشتغل كلّه بالصَّلاة فإنّه لا يكاد يخرج عن عهدته .
 وهناك طريقة لتحصيل الترتيب سهلة ومختصرة، فلو فاته مثلاً الصَّلوات الخمس غير مرتّبة ولم يعلم السابق من اللاحق، يحصل العلم بالترتيب بأن يصلّي عن كلّ فريضة صلاة يوم، فيقضي في المثال صلاة خمسة أيام وهي خمس وعشرون فريضة، ولو زادت فريضة صلّى ستة أيام، أي ثلاثون فريضة، وإذا زادت فريضة صلّى سبعة أيام، أي خمس وثلاثون فريضة، وهكذا، فيحتاط لكلّ فائتة بالفرائض الخمس اليوميَّة .


[1] را : مصباح الفقيه، لآقا رضا الهمداني، ج2، ص609، ط حجرية.