الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/03/01

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : فقه الصَّلاة /صلاة القضاء وأحكامها
وعليه، فكيف يصح الابتداء بصلاة العشاء قبل المغرب ؟! .
 اللهمَّ إلَّا أن يُقال : إنّ المراد بفوات المغرب فوات فضيلتها، وقوله (عليه السلام) حينئذٍ : (يبدأ بصلاة الوقت الذي هو فيه) أي : المغرب .
 ولكن بناءً على هذا تنحصر الفائتة الحقيقيّة بالظهرين فقط، وقد عرفت أنّه لا إشكال في وجوب الترتيب بين قضائهما .
 ثمّ إنّ هناك إشكالاً آخر في الرواية، وهو التعليل المذكور في الرواية : (فإنّه لا يأمن الموت)، فإنّه لا يناسب تقديم الحاضرة على الفائتة، لأنَّ كليتيهما واجبة، ومن فرائض الله سبحانه وتعالى، ولا يصلح هذا التعليل لترجيح إحداهما على الأخرى، وإنَّما هذا التعليل يناسب تقديم الواجبة على الأمر المباح أو المستحب .
 والخلاصة إلى هنا : أنّه لم يتم شيء من تلك الأدلّة المتقدّمة .
 ومن هنا كان الأقوى : عدم وجوب الترتيب لإطلاق أدلّة القضاء، مضافاً إلى أصل البراءة عن الترتيب إلَّا فيما كانت الفائتة مترتبة في نفسها، كالظهرين والعشاءين، والله العالم .
قوله : (والقضاء تابع في القصر والتمام، فيقضي الحاضر ما فاته سفراً قصراً، والمسافر ما فاته حضراً تماماً)
في المدارك : (هذا مذهب العلماء كافَّة إلَّا من شذّ)، وأشار بذلك إلى ما نقله المصنِّف & في الذكرى عن المزني من علماء العامَّة، قال فيها : ( ولا خلاف بين المسلمين في وجوب إتمام ما فات في الحضر، وإن فعل في  السفر، إلَّا ما نقل عن المزني من القصر، اعتباراً بحال الفعل ... )، وفي الجواهر : (بلا خلاف بيننا في شيءٍ منه، نقلاً وتحصيلاً، بل إجماعاً كذلك ... )[1].
 أقول : هناك تسالم بين علماء الطائفة المحقّة على المسألة، بل تسالم من غيرهم أيضاً إلَّا ما عرفت عن المزني، وهذا يفيد القطع بلا إشكال .
 ومع ذلك فقد يستدلّ لذلك ببعض الأخبار منها حسنة زرارة (قال : قلتُ له : رجل فاتته صلاة من صلاة السفر فذكرها في الحضر، قال : يقضي ما فاته كما فاته إن كانت صلاة السفر أدّاها في الحضر مثلها، وإن كانت صلاة الحضر فليقض في السفر صلاة الحضر، كما فاتته)[2].
 ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر ‘ ( قال : إذا نسي الرّجل صلاة أو صلاها بغير طهور وهو مقيم، أو مسافر فذكرها، فليقضِ الذي وجب عليه، لا يزيد على ذلك، ولا ينقص منه، من نسي أربعاً فليقضِ أربعاً حين يذكرها، مسافراً  كان أو مقيماً، وإن نسي ركعتين صلّى ركعتين إذا ذكر، مسافراً  كان أو مقيماً)[3]، والرواية صحيحة، لأنَّ موسى بن بكر الواسطي الواقع في السند من المعاريف الكاشف ذلك عن وثاقته .
 ومنها : موثَّقة عمَّار عن أبي عبد الله ‘ - في حديث - (قال : سألته عن الرّجل تكون عليه صلاة في الحضر هل يقضيها وهو مسافر ؟ قال : نعم، يقضيها بالليل على الأرض، فأمَّا على الظَّهر فلا، ويصلّي كما يصلّي في الحضر)[4].
 ومنها : موثقته الأخرى (قال : سألت أبا عبد الله ‘ عن المسافر يمرض، ولا يقدر أن يصلي المكتوبة، قال : يقضي إذا أقام مثل صلاة المسافر بالتقصير)[5].
 ثمَّ إنّه إذا حصل الفوات في أماكن التخيير فهل يثبت التخيير في القضاء أيضاً مطلقاً أو بشرط أن يوقعه في تلك الأماكن، أم يتعيّن عليه القصر ؟
 قال في الجواهر : ( أنَّه قد يقوى في النظر ثبوت التخيير في القضاء بين القصر والإتمام إن كان الفوات في أحد أماكنه، خصوصاً إذا كان القضاء في أحدها، وفاقاً لِمَا عن المحقِّق الثاني، بل وصاحب المعالم في حاشيته على اثني عشريته، على ما حكاه في مفتاح الكرامة عن تلميذه، بل كأنّه مال إليه في المدارك أيضاً بعد أن جعل تعيّن القصر فيها وجهاً، وخصوص التخيير فيها آخر ... ) [6].
 أقول : قد يستدلّ لثبوت التخيير في القضاء مطلقاً ببعض الأدلّة :
 منها : النبوي المتقدِّم : (من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته)، فإنّ مقتضى عمومه أنّه إذا فاتته صلاة مخيّراً فيها بين القصر والتمام فقضاؤها كذلك .
 وفيه أوَّلاً : أنّه ضعيف جدّاً، بل هو غير موجود في الأصول المعتمدة .
 وثانياً : أنّ المعتبر في حيثيّة الصّلاة التي يجب رعايتها في القضاء هي الحقيقة الأصليّة المعتبرة في الصّلاة من حيث هي عند القدرة عليها، مثل الطّهارة والقيام والاستقبال ونحوها، دون الحيثيّة الثانوية العارضة التي سوّغتها خصوصية المكان أو الزمان كما فيما نحن فيه، فإنَّ جواز الإتمام في الأماكن الأربعة من الخصوصيّات العارضة، فلا تلحظ في القضاء .
 وعليه، فلا عموم في التشبيه من هذه الجهة .
 ومنها : ما ذكرها المحقّق الهمداني & من تبعية القضاء للأداء، قال في المصباح : (إنَّ القضاء وإن كان بأمر جديد، ولكنّ الأمر الجديد كشف عن أنّ المطلوب بالأمر الأوّل من قبيل تعدّد المطلوب، وأنّ مطلوبيّته لا تنتفي بفوات وقته، فالصَّلاة المقضيّة بعينها هي الماهية التي وجب الإتيان بها في الوقت، فيجب أن يراعي منها جميع ما ثبت لها من الشرائط والأجزاء والأحكام، عدا ما نشأ من خصوصيّة الوقت ) [7].
 وفيه : أنّ القضاء ليس تابعاً للأداء، كما عرفت في علم الأصول .
 وعليه، فلا يكون الأمر الجديد كاشفاً عن أنّ المطلوب بالأمر الأوّل من قبيل تعدّد المطلوب، فإذا سقط الأمر الأوّل كما هو المفروض فالأمر الجديد لا يوجد فيه ما يدلّ على التخيير .
 وبالجملة، فإنّ هذا الدليل غير تامّ .
 ومنها : الاستصحاب، أي : استصحاب التخيير الثابت له حال الأداء .
 وفيه أوَّلاً : أنَّه من استصحاب الحكم الكلي، لأنّ التخيير وإن لم يكن أمراً إلزاميّاً إلَّا أنّه مجعول من الشارع، وليس هو كالطهارة والحلية غير المجعولين .
 وعليه،فاستصحاب التخيير إلى ما بعد خروج الوقت معارض باستصحاب عدم جعل التخيير في خارج الوقت .
 وثانياً : أنّ الموضوع منتفٍ، لأنّ التخيير موضوعه الأمر الأوّل، وقد سقط بخروج الوقت، وإذا لم يبقَ الموضوع فلا معنى للاستصحاب حينئذٍ .
 هذا، وذهب بعض الأعلام إلى تعيّن القصر عليه قضاء، وقد يستدلّ لذلك بأمرين :
 الأول : قاعدة الاشتغال، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير، والمرجع فيه أصالة التعيين فيتعيّن القصر.

 وفيه : أنّ مقتضى الأصل العملي عند الدوران بين التعيين والتخيير هو البراءة عن التعيين، إلّا في موردين، وليس المقام منهما .
 الثاني : قد عرفت أن العبرة في القضاء بما يفوت المكلّف في آخر الوقت، ومن المعلوم أنّه إذا ضاق الوقت عن الصّلاة إلّا بمقدار أربع ركعات، فيكون الإنسان مكلّفاً حينئذٍ بالتقصير فقط ركعتان للظهر، وركعتان للعصر، فإذا لم يصلِ فيتعيّن عليه قضاء ما فاته، والذي فاته هو الصّلاة قصراً .
 ومن هنا تصبح النتيجة أنّ الإنصاف : هو القضاء قصراً، لا سيّما وأنّ الوظيفة الأوليّة للمسافر هي الصّلاة قصراً، وأمّا الإتمام في تلك الأماكن فإنّما جعل لمصحلة اقتضت ذلك، وإن كان الأحوط استحباب الجمع في القضاء بين القصر والإتمام، ومنشأ هذا الاحتياط هو كون التمام أصلاً في الصّلاة، وإنّما جاء القصر للمسافر تخفيفاً من الشارع المقدّس .
 ثمّ إنّه ممّا ذكرنا يتضح لك ما ذكّره البعض من القول بالتخيير بشرط أن يوقعه في تلك الأماكن، فلا حاجة للإعادة، والله العالم .
قوله : (ولوِ اشتبهت الفائتة صلّاها قصراً، وتماماً)
وذلك للعلم الإجمالي، وهو واضح .


[1] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج13، ص111.
[2] وسائل الشيعة، شیخ حر العاملی، ج8، ص268، أبواب قضاء الصّلوات، باب6، ح1، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، شیخ حر العاملی، ج8، ص269، أبواب قضاء الصّلوات، باب6، ح4، ط آل البيت.
[4] وسائل الشيعة، شیخ حر العاملی، ج8، ص268، أبواب قضاء الصّلوات، باب6، ح2، ط آل البيت.
[5] وسائل الشيعة، شیخ حر العاملی، ج8، ص269، أبواب قضاء الصّلوات، باب6، ح5، ط آل البيت.
[6] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج13، ص114.
[7] مصباح الفقيه، آقا رضا الهمداني، ج2، ص617، ط.ق.