الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/02/16

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: فقه / الصَّلاة / صلاة القضاء وأحكامها
ومن جملة ما استُدلّ به للمضايقة الأخبار الكثيرة :
 منها : النبوي الذي في محكي السرائر، أنّه من المجمع عليه بين الأمة : (مَنْ نام عن صلاة، أو نسيها : فوقتها حين يذكرها)[1].
 ومنها : رواية نعمان الرازي (قال : سألت أبا عبد الله ‘ عن رجلٍ فاته شيء من الصَّلوات، فذكر عند طلوع الشَّمس، وعند غروبها، قال : فليصلِّ حينَ ذكره)[2].
 ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر ‘ (أنَّه قال : أربع صلوات يصلّيها الرجل في كلّ ساعةٍ، صلاة فاتتك فمتى ما ذكرتها أدّيتها، وصلاة ركعتي طواف الفريضة، وصلاة الكسوف، والصَّلاة على الميت، هذه يصليهنّ الرجل في السَّاعات كلّها)[3].
وفيه - مضافاً إلى ضعف الرواية الأولى بالإرسال، والثانية بجهالة نعمان الرازي، وبجهالة أحمد بن عمر بن كيسة الواقع في طريق الشيخ إلى علي بن الحسن الطاطري - أنَّه يبعد جدّاً أن يكون قوله ‘ : (فوقتها حين يذكرها)، أو (فليصلِّ حين ذكره)، أو (متى ذكرتها) محمولاً على الفوريَّة، كما أنَّه لا يصحّ أن يكون قوله : (حين يذكرها) توقيتاً للقضاء، إذ القضاء لا وقت له، كما لا يصحّ أن يكون شرطاً لوجوب القضاء، لأنّ السبب التامّ له هو نفس الفوت، ولا دخل للذكر فيه أصلاً، ومن هنا وجب القضاء مع الغفلة والنسيان .
 وعليه، فالأقرب أن يحمل قوله ‘ : (حين يذكرها)، أو (حين ذكره ) على كون الذكر شرطاً لفعليّة القضاء، وتنجّزه، فيكون جارياً مجرى قولك : يقضي النائم إذا استيقظ .
 وعليه، فلا يفهم من هذه التعابير إرادة الفورية .
 ولأجل ما ذكرناه لا تجد تناقضاً بين الفقرات التي تضمنتها رواية زرارة المتقدّمة الواردة في نوم النبي صلى الله عليه وآله المشتملة على الأمر بالصَّلاة إذا ذكرها، مع أنَّ صدرها وذَيْلها ينافي الفوريّة، إذ هي صريحة في جواز الإتيان بالنافلة لمن عليه فائتة، وكذا الانتقال من مكان إلى مكان آخر تحرُّزاً عن الصَّلاة في الأماكن المكروهة، وكذا الإتيان بالأذان والإقامة،  ونحوهما من المستحبّات، فإن أراد القائلون بالمضايقة ما ينافي ذلك، كما هو صريح كلمات كثير منهم، حتّى أنَّه حُكِي عنهم المنع عن الأكل والشرب والنوم والتكسب إلا بمقدار الضرورة، فهذه الرواية حجّة عليهم، ,إن أرادوا الفورية العرفيّة فهي غير منافية لها .
 والذي يهوِّن الخطب أنّ الرواية ضعيفة بالإرسال، مضافاً لمنافاتها لمقام النبوة .
 وأمَّا القول : بأنَّ النوم ليس كالسهوِّ، خصوصاً مع ما في بعض الأخبار في نوم النبي صلى الله عليه وآله من الإشارة إلى كونه من قبل الله تعالى رحمةً بالعباد لئلَّا يعيِّر بعضهم بعضاً إذا نام عن صلاة الصبح .
 ففيه : أنّ ذلك إنّما يتمّ لو لم يكن النوم من الشّيطان، وأمّا لو كان منه فلا يتمّ ذلك، وقد ذكرنا في بعض الروايات الصحيحة أنّ النوم كان من الشيطان، حيث ورد في ذيل صحيحة عبد الله بن سنان - مخاطباً النبي صلى الله عليه وآله لأصحابه -  : (نمتم بوادي الشَّيطان) .
 ومن جملة الروايات المستدلّ بها على المضايقة صحيحة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله ‘ (قال : سألته عن الرجل ينام عن الغداة حتّى تبزغ الشَّمس، أيصلِّي حين يستيقظ، أو ينتظر حتّى تنبسط الشَّمس ؟ فقال : يصلِّي حين يستيقظ، قلت : يُوتِر، أو يصلِّي الركعتين ؟ قال : بل يبدأ بالفريضة)[4].
ومنها : موثّقة سماعة ابن مهران (قَالَ : سَأَلْتُه عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، قَالَ : يُصَلِّيهَا حِينَ يَذْكُرُهَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وآله رَقَدَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّاهَا (صلِّيها خ ل) حِينَ اسْتَيْقَظَ، ولَكِنَّه تَنَحَّى عَنْ مَكَانِه ذَلِكَ، ثُمَّ صَلَّى)[5].
والاستشهاد في هذه الموثقة بفقرتين :
 الأولى : قوله ‘ : (حين يذكرها )، وقد تقدّم الجواب عنها .
 والثانية : قوله ‘ : (حين استيقظ ) .
 والجواب عنها وعن صحيحة يعقوب بن شعيب : أنَّهما مسوقتان لبيان عدم اختصاص القضاء بوقت دون وقت، في مقام توهيم مرجوحيّته في بعض الأوقات فقوله ‘ : (يصلِّي حين يستيقظ) وارد مورد الرخصة، حيث توهّم الرواي المنع عن قضاء الصّلاة حين طلوع الشّمس، لمّا ورد من كراهة الإتيان بالنوافل المبتدأة في هذا الوقت فتوهّم الراوي أنّ قضاء الصّلاة مكروه أيضاً في هذا الوقت فأجابه ‘ : بجواز ذلك، وأنّه ليس محظوراً .
 ومنها : صحيحة أبي ولاد (قال : قلت لأبي عبد الله ‘ : إنّي كنت خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة، وهو من الكوفة على نحو من عشرين فرسخاً في الماء، فسرت يَوْمِي ذلك أقصّر الصّلاة، ثمّ بدا لي في اللّيل الرجوع إلى الكوفة، فلم أدرِ أصلّي في رجوعي بتقصيرٍ أم بتمام، وكيف كان ينبغي أن أصنع - إلى أن قال ‘ : - وإن كنت لم تسر في يومك الذي خرجت فيه بريداً فإن عليك أن تقضي كل صلاة صلّيتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام من قبل أن تؤمّ من مكانك ذلك، لأنّك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتّى رجعت ... )[6].
 وفيه أوَّلاً : أنَّها لا تدل على المضايقة، لا سيَّما المضايقة الحقيقية، حيث منع السيد المرتضى في المسائل الرسيَّة من أكل ما يفضل عما يمسك الرمق، ومن نوم يزيد على ما يحفظ الحياة، ومن تعيُّشٍ يزيد على قدر الضرورة، ومن الاشتغال بجميع المباحات والمندوبات والواجبات الموسعة قبل القضاء .
  وثانياً : أنَّ الأصحاب لم يعملوا بها حيث لم ينقل عن أحدٍ القول بوجوب قضاء الصَّلوات المقصورة إذا بدا له عن السَّفر قبل إتمام المسافة .
 وثالثاً : أنَّها معارضة بصحيحة زرارة التي هي نصّ بعدم الإعادة (قال زرارة : سألت أبا عبد الله ‘ عن الرَّجل يخرج مع القوم في السَّفر يريده فدخل عليه الوقت، وقد خرج من القرية على فرسخين فصلّوا، وانصرف بعضهم في حاجة، فلم يقضِ له بالخروج، ما يصنع بالصلاة التي كان صلّاها ركعتين ؟ قال : تمّت صلاته، ولا يعيد)[7].
 وعليه، فتكون صحيحة أبي ولّاد محمولة على الاستحباب، أي : استحباب أصل القضاء، والله العالم .

 ومنها : حسنة زرارة عن أبي جعفر ‘ (أنَّه سُئِل عن رجلٍ صلّى بغير طهورٍ، أو نسي صلاةً لم يصلّها، أو نامَ عنها، فقال : يقضيها إذا ذكرها في أيِّ ساعةٍ ذكرها من ليلٍ أو نهارٍ، فإذا دخل وقت الصَّلاة ولم يتمّ ما قد فاته فليقضِ ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الصَّلاة التي قد حضرت، وهذه أحقّ بوقتها فليصلّها، فإذا قضاها فليصلّ ما فاته ممّا قد مضى، ولا يتطوّع بركعةٍ حتى يقضي الفريضة كلّها)[8].
 هذا، وقد ذكر المحقّق الهمداني : أنَّ هذه الحسنة - وقد عبّر عنها بالصحيحة - هي عمدة ما يصحّ الاستشهاد به للقول بالمضايقة، وقد اعترف بظهورها في ذلك .
 ولكنّ الإنصاف : أنّها ليست ظاهرة في وجوب المضايقة، لأنّ الاستدلال للوجوب لا يخلو إمّا أن يكون لقوله : (يقضيها إذا ذكرها)، وإمّا يكون لقوله : (فإذا دخل وقت الصَّلاة، ولم يتم ما قد فاته، فليقضِ)، وإمّا أن يكون بقوله أخيراً : (ولا يتطوّع بركعةٍ حتّى يقضي الفريضة كلّها) .
 وفيه :
 أمَّا الفقرة الأولى : فقد تقدّم الكلام عنها، وقلنا : إنَّ الذكر ليس توقيتاً للقضاء، ولا شرطاً لوجوبه، وإنّما هو شرط لفعليَّته وتنجُّزه .
 وأمَّا الفقرة الثانية : فهي ظاهرة في الوجوب الشرطي، أي : إنَّ الشرط في صحّة الحاضرة هو فراغ الذمّة عن القضاء، وهذه مسألة أخرى سيأتي الكلام عنها قريباً إن شاء الله تعالى .
 وإن أبيتَ، وقلت : إنّها داخلة في مسألتنا هذه .
 فنقول : إنَّ قوله ‘ (فليقضِ ما لم يتخوّف ... ) وارد مورد توهم الحظر، باعتبار أنّ الحاضرة هي صاحبة الوقت، ولا يشاركها فيه شيء آخر .
 وأمّا الفقرة الثالثة : فهي أجنبية عن محلّ الكلام، لدلالتها على اشتراط صحّة النافلة بفراغ الذمّة عن القضاء .
ثمّ لو سلّمنا أنّ حسنة زرارة ظاهرة في وجوب المضايقة إلّا أنّ أخبار المواسعة أظهر منها، بل بعضها نصّ في ذلك، فتحمل حينئذٍ على الاستحباب .
 ومن هنا لو كانت كل الأخبار المتقدّمة ظاهرة في الوجوب لتعيّن حملها على الاستحباب، نظراً لكون أخبار المواسعة أظهر منها، بل فيها ما هو نصذ في ذلك، هذا تمام الكلام في أدلّة المضايقة .
 وأما القول بالمواسعة، فقدِ استُدل له بعدّة أدلّة :
 منها : أصالة البراءة، لكون الشبهة حكميّة وجوبيّة، إذ الشكّ يرجع إلى الشكّ في وجوب القضاء فوراً، أو لا يجب، ومقتضى الأصل عدم الوجوب باتفاق الأصوليين والإخباريين، إلّا محمدَ أمين الإسترآبادي رئيس الإخباريين، حيث منع من جريان أصل البراءة في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة .
 وفيه : أنّ الأصل العملي إنّما يجري مع فقد الدليل الاجتهادي، وإلّا فمع ورود الدّليل الاجتهادي على المواسعة فلا محلّ للأصل العملي .
 ومنها : ما قيل : إنّه إجماع، أو كالإجماع، قال المحقّق في المعتبر : (أنَّ القول بالمضايقة يلزم منه منع من عليه صلوات كثيرة أن يأكل شبعاً، وأن ينام زائداً على الضرورة، ولا يتعيّش إلّا لاكتساب قوت يومه له ولعياله، وأنّه لو كان معه درهم ليومه حرم عليه الاكتساب حتّى تخلو يده، والتزام ذلك مكابرة صرفة، والتزام سوفسطائي، ولو قيل : قد أشار أبو الصّلاح الحلبي إلى ذلك، قلنا : نحن نعلم من المسلمين كافّة خلاف ما ذكره، فإنّ أكثر الناس يكون عليهم صلوات كثيرة، فإذا صلّى الإنسان شهرين في يومه استكثره الناس) [9].



[1] السرائر، ابن إدريس الحلي، ج1، ص322، أوائل باب صلاة الكسوف.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج4، ص244، أبواب المواقيت، باب39، ح16، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج4، ص240، أبواب المواقيت، باب39، ح1، ط آل البيت.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج4، ص284، أبواب المواقيت، باب61، ح4، ط آل البيت.
[5] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص254، أبواب قضاء الصلوات، باب1، ح5، ط آل البيت.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص470، أبواب صلاة المسافر، باب5، ح1، ط آل البيت.
[7] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص522، أبواب صلاة المسافر، باب23، ح1، ط آل البيت.
[8] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص257، أبواب قضاء الصلاة، باب2، ح3، ط آل البيت.
[9] المعتبر، المحقق الحلي، ج2، ص408.