الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/02/11

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: فقه / الصَّلاة / صلاة القضاء وأحكامها /
 قوله : (ووقت القضاء الذكر، إلا أن يتضيق (تضيَّق خ ل ) الحاضرة، والأصحّ : تخيّره بين القضاء والأداء مع سعة وقت الحاضرة، والقضاء أفضل، وأكثر الأصحاب على وجوب الفوريَّة، وتأخير الحاضرة، وهو أحوط)[1] 
 اِختلف الأعلام في وجوب تقديم الفائتة على الحاضرة، فذهب جماعة - منهم السيد المرتضى، وابن إدريس (قدس سرهما) - إلى الوجوب، ما لم يتضيَّق وقت الحاضرة، وصرَّحوا ببطلان الحاضرة لو قدّمها، مع ذكر الفوائت، وذهب ابنا بابويه (قدس سرهما) إلى المواسعة المحضة، حتّى أنَّهما استحبا تقديم الحاضرة على الفائتة مع السِّعة .
 قال العلَّامة في المختلف - بعد حكاية ذلك - : (وهو مذهب والدي رحمه الله، وأكثر من عاصرناه من المشايخ)[2]، وذهب المحقِّق إلى وجوب تقديم الفائتة المتحدة، دون المتعدِّدة .
واستقرب العلَّامة في المختلف وجوب تقديم الفائتة إن ذكرها في يوم الفوات، سواء اتحدت أو تعددت، قال : (فإن لم يذكرها حتَّى يمضي ذلك اليوم جاز له فعل الحاضرة في أوَّل وقتها، ثمَّ يشتغل بالقضاء، سواء اتحدت الفائتة أو تعدَّدت ... ) [3].
 أقول : عندنا مسألتان لا ينبغي الخلط بينهما :
 الأولى : هل يجب المبادرة إلى القضاء، أي الإتيان بها فورا، أم يجوز التراخي .
 وبعبارة أخرى : هل الأمر في هذه المسألة مبني على المضايقة، أم المواسعة .
 الثانية : هل يعتبر الترتيب بين الفائتة والحاضرة، بأن يأتي بالفائتة أولى مع الإمكان، ثم الحاضرة، أم لا ترتيب بينهما أصلاً، أو في الجملة، وقد وقع الخلط في كلمات الأعلام في هاتين المسألتَيْن، فربّما يستدلِّون للقول بالمضايقة بما يدلّ على الترتيب، أو بالعكس، وكذا للمواسعة بما يدلّ على عدم اعتبار الترتيب، أو بالعكس .
 ومن هنا ذهب بعض الأعلام إلى اتحاد المسألتَيْن، وابتناء القول بالترتيب على المضايقة وعدمه على عدمها، كما عن أبي العباس، حيث صرَّح بأنّ الترتيب هو القول بالمضايقة، وعدمه هو القول بالمواسعة، كما عن الصيرمي ما يقرب منه، ولكنَّه في غير محلِّه، إذ لا ملازمة بين المسألتَيْن، فيمكن الالتزام بالترتيب من جهة النصوص الآتية، دون المضايقة، وإن أدّى إليها أحياناً إمَّا لكثرة الفوائت، أو لعدم تذكّره إلَّا في ضيق الوقت، وكذا يجوز القول بالمضايقة بدون الترتيب لأجل بعض الأدلة الآتية إن شاء الله تعالى .
 نعم، لازم هذا القول الالتزام بالترتيب بناءً على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص، وكون المراد بالمضايقة المضايقة الحقيقية، بحيث ينافيها التشاغل بسائر الأعمال بمقدار أداء صلاة ما لم يضطر إليها، وكل من الأمرين ممنوعان :
 أمَّا الأمر الأوَّل : فقد ذكرنا في علم الأصول أنَّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدِّه الخاصّ .
 وأمَّا الأمر الثاني : فسيأتي - إن شاء الله تعالى - بيانه، وأنَّ المراد بالمضايقة هي المضايقة العرفيَّة، بحيث لا ينافيها التشاغل بسائر الأعمال بمقدار أداء الصَّلاة .
 ومهما يكن، فإنَّنا نتكلم في المسألتين، كلّ واحدة على انفراد :
 الأولى : في المواسعة والمضايقة .
 المشهور بين المتأخرين : هو القول بالمواسعة، بل في المصابيح : (أنَّ هذا القول مشهور بين أصحابنا ناش  في كل طبقة من  طبقات فقهائنا المتقدمين منهم، والمتأخرين)[4]، قال صاحب الجواهر : (وهو كذلك، يشهد له التتبع لكلمات الأصحاب، وِجَادةً وحكايةً في الرسائل الموضوعة في هذا الباب )، ثمَّ أطنب في نقل أقوال الأعلام إطنابا مملّاً .
 وبالمقابل حُكي عن جملة من الأصحاب منهم السيد والحلي والحلبي، ظاهر المفيد والديلمي (قدس الله أسرارهم جميعاً) القول : بوجوب قضاء الفائتة فوراً، وعدم جواز التأخير، حتّى أّنه حكي عنهم المنع عن الأكل والشرب والنوم والتكسب إلَّا بمقدار الضرورة، وعن بعضهم التصريح ببطلان الفريضة في أوّل الوقت، بل عن الحلّي في خلاصة الاستدلال : (أنّه أطبقت عليه الإمامية خلفاً عن سلفٍ وعصراً بعد عصر، وأجمعت على العلم به، ولا يعتدّ بخلاف نفرٍ يسيرٍ من الخراسانيين، فإنَّ ابن بابويه والأشعريين، كسعد بن عبد الله صاحب كتاب الرحمة، وسعد بن سعد، ومحمد بن علي بن محبوب صاحب كتاب نوادر الحكمة، والقميين أجمع، كعلي بن إبراهيم ابن هاشم، ومحمّد بن الحسن بن الوليد، عاملون بالأخبار المتضمنة للمضايقة، لأنَّهم ذكروا أنَّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته، وحفظتهم الصدوق ذكر ذلك في كتاب من لا يحضره الفقيه، وخرِّيت هذه الصناعة ورئيس الأعاجم الشيخ أبو جعفر الطوسي مُودِع أحاديث المضايقة في كتبه مُفتٍ بها، والمخالف إذا علم باسمه ونسبه لم يضرّ خلافه ... )[5].
 وذكر صاحب الجواهر : (أنَّه من تحرير محلّ النزاع من تعداد القائلين بالمواسعة ينكشف لك فساد دعوى هذه الإجماعات، وخطأ حاكيها في استنباطها، وكيف لا ؟ وقد عرفت أنَّا لم نقف بعد الاستقراء على قائل بالمضايقة من أصحاب الفتاوى،  سوى جماعة ذكرنا هم وعمدتهم نقلة الإجماع الذين هم ليسوا في عصر واحد، ولم يخل عصر أحد منهم من الخلاف - إلى أن قال : - ولقد أجاد المحقّق الشيخ علي بن عبد العالي في تعليق الإرشاد حيث قال : كلام ابن إدريس غير صريح في دعوى الإجماع على القول بالمضايقة، لأنّه يحتمل أن يراد به الإجماع على أنّ الأدلّة التي ذكرها حجّة، لا أنّ ما استدلّ عليه من هذه المسألة انعقد الإجماع عليه، وهو جيّد - ثمّ قال صاحب الجواهر : - وبالجملة الركون هنا إلى هذه الإجماعات التي قد عرفت حالها من الفتاوى والروايات ممّا لا يقطع العذر معه عند ربّ السماوات خصوصاً بعد ما سمعت من معارضتها بالإجماعات السابقة في أدلّة المواسعة، واشتهار الإعراض عنها في الأعصار المتأخّرة المملوءة من الأفاضل المحقّقين الذين لا يجسر على دعوى قصورهم عن المتقدّمين، بل هي على العكس أقرب إلى الصواب، كما لا يخفى على ذوي الألباب، بل هم معهم أشبه شيءٍ بقوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ... الآية، ويكفيهم من الفضل أنّهم علموا ما عند المتقدّمين وزادوا عليهم بما عندهم، وأعلم الناس من يجمع علمه وعلم غيره، ولقد أجاد المجلسي - طاب ثراه - فيما حكي عنه في أحكام صلاة الجمعة من البحار حيث قال : وأيّ فرق بين عمل الشهيد الثاني ومَنْ تأخَّر عنه، وعمل الشيخ ومن تأخر عنه إلى زمان الشهيد الثاني، حيث يعتبر أقوال أولئك ولا يعتبر أقوال هؤلاء،  مع أنّه لا ريب أنّ هؤلاء أدقّ فهماً، وأذكى ذهناً، وأكثر تتبعاً منهم، ونرى أفكارهم أقرب إلى الصواب في أكثر الأبواب ... ) .
 أقول : إذا عرفت ذلك فَلْنبدأ بأدلَّة القائلين بالمضايقة، وقد استدلّ لهم بعدَّة أدلَّة :
 منها : الإجماع المدَّعى من بعض الأعلام، كما تقدَّم، ولكنَّك عرفت أنَّ الركون إلى هذه الإجماعات في غير محلِّه، لا سيَّما مع معارضتها بالإجماعات القائمة على المواسعة، كما سيأتي .
 ومنها : أصالة الاحتياط، لأنَّه مع المبادرة يأمن من العقوبة، وأمَّا مع التأخير فلأنّ يأمن من ذلك .
 وفيه : أنَّ المورد ليس من موارد أصالة الاحتياط، بل المورد يجري فيه أصالة البراءة، لكونها شبهة حكمية وجوبيَّة، إذ الشكّ يرجع إلى الشكّ في وجوب القضاء فوراً، أو لا يجب، ومقتضى الأصل عدم الوجوب باتفاق الأصوليين والإخباريين، إلَّا محمّد أمين الإسترآبادي رئيس الإخباريين، حيث منع من جريان أصل البراءة في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة .
 ومنها : إطلاق الأمر بالقضاء، حيث إنَّه ظاهر في الفوريَّة لغةً، أو شرعاً، أو عرفاً .
 وفيه : ما ذكرناه في علم الأصول أنَّ إطلاق الأمر لا يدلّ لا على الفوريَّة، ولا على التراخي، وإنَّما المطلوب فيه إيجاد الطبيعة فقط، والفوريَّة أو التراخي يستفادان من القرائن .
 ومنها : قوله تعالى : ﴿ وأقم الصلاة لذكري ﴾ [6]، بناءً على ما نُسِب إلى كثير من المفسِّرين من أنَّه في الفائتة، قال المصنِّف في الذكرى بعد ذكر الآية الشريفة : (أي : لذكر صلاتي، قال كثير من المفسرين : إنَّها في الفائتة ) .


[1] الدروس، الشهيد الأول، ج1 ص145.
[2] مختلف الشيعة، العلامة الحلي، ج6، ص145.
[3] مختلف الشيعة، العلامة الحلي، ج3، ص6.
[4] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج13، ص33.
[5] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج13، ص77.
[6] طه/سوره20، آیه14.