الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

36/02/09

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: فقه / الصَّلاة / صلاة القضاء وأحكامها
قوله : (يجبُ قضاءُ فائت الفرائض مع البلوغ، والعقل)
 قال في المدارك : أمَّا سقوط القضاء عن الصغير، والمجنون، بعد البلوغ، والإفاقة، فمتفق عليه بين المسلمين ... [1]،
وفي الجواهر - تعليقاً على قول المحقِّق بسقوط القضاء عن الصغير - : إجماعاً محصَّلاً ومنقولاً مستفيضاً، كالسُّنة، بل لعلَّه  من ضروري المذهب، بل الدين، كما اعترف به في المفاتيح، ومثله في ذلك كلَّه الجنون ... [2].
 أقول : المسألة متسالم عليها بين الأعلام في جميع الأعصار والأمصار، فلا تحتاج إلى الاستدلال، ومع ذلك قد يدلّ على سقوط القضاء عن المجنون القاعدة الواردة في المغمى عليه التي هي من الأبواب التي يفتح مها ألف باب، كما في بعض الأخبار، وهي "كلَّما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر"، وسنتكلم عن هذه القاعدة بالتفصيل - إن شاء الله تعالى - عند الكلام قريباً عن المغمى عليه، هذا كلّه إذا كان الجنون بآفةٍ سماويَّة .
 وأمَّا إذا كان بفعله، فذكر المصنِّف في الذكرى أنَّ عليه القضاء، قال فيها : لو زال عقلُ المكلَّف بشيءٍ من قبله فصار مجنوناً، أو سَكِرَ فغطى عقله، أو أُغمي عليه بفعلٍ فَعَله وجب القضاء، لأنّه مسبَّب عن فعله، وأفتى به الأصحاب ... [3]، فإسناد القضاء إلى الأصحاب مشعر بدعوى الإجماع عليه .
 ووافقه الشهيد الثاني في الروضة، وفي الروض، حيث قيَّد الجنونَ المسقِط للقضاء بما إذا لم يكن من فعله، وإلَّا وجب القضاء، وعلَّق صاحب الجواهر على كلام المصنِّف في الذكرى بقوله : ولعلَّ نسبته إلى الأصحاب نشأت من ذكر بعضهم إيجاب القضاء في شرب الْمُرْقِد[4][5]، وإلَّا فما عثرنا عليه من كلام الأصحاب في المقام لا تفصيل منه، ومثله الإجماعات المنقولة ونفي الخلاف ....
 هذا، وقدِ استُدلّ لوجوب القضاء عليه فيما لو كان الجنون بفعله بعموم قوله صلى الله عليه وآله :  من فاتته فريضة فَلْيقضها كما فاتته خرج عنه ما كان الجنون بآفةٍ سماوية، لأنَّه القدر المتيقن من عدم وجوب القضاء عليه، ويبقى ما كان الجنون بفعله داخلاً تحت العموم .
 أقول : هناك إشكالان في هذا الدليل :
 الأول : أنَّ الرواية نبويَّة عاميَّة، فهي مرسلة، لا تصلح للاستدلال .
 الثاني : أنَّ موضوع القضاء من فاتته فريضة، وهذا لا يصدق على المجنون، إذ لم تفته فريضة حتّى يجب قضاؤها، وذلك لأنَّ حديث رفع القلم عن الصبيِّ حتَّى يحتلم، وعن المجنون حتَّى يفيق، وعن النائم حتَّى يستيقظ[6] يدلَّ على انتفاء التكليف في حقِّ المجنون، فهو لم يكلَّف بشيءٍ، لانتفاء أهليَّته للتكليف رأساً .

 لا يُقَال - كما قال السيد محسن الحكيم والمحقِّق الهمداني (قدس سرهما) - : إنَّ حديث رفع القلم عن المجنون ظاهر في رفع الفعليَّة، لا رفع ذات التكليف، ومناطه عنه نظير رفع القلم عن النائم حتَّى يستيقظ ؛ وعليه، فإطلاق أدلَّة التكليف الدَّالة بالالتزام على وجود المناط في فعل المجنون موجب لصدق الفوت على تركه، فيشمله دليل القضاء .
 فإنَّه يُقَال : فرق كبير بين النائم والمجنون، فإنَّ النوم العارض على الإنسان لا يخرجه عن أهليَّة التكليف .
 نعم، هو مانع من إيجاد الفعل، وهذا بخلاف المجنون، فإنَّه ليس أهلاً للتكليف كالصبيِّ غير المميِّز ؛ نعم، الصبيّ المميِّز مثل النائم في كونه أهلاً للتكليف .
 ولكن الذي يرد على حديث رفع القلم أنّه ضعيف بطريقَيْه، وقد ذكرنا هذه الطرق، وبيان ضعفها في أوَّل باب الحجِ، فراجع إن شئت [7].
 والإنصاف : أنَّه لا يجب القضاء عن المجنون، وإن كان الجنون بفعله، وذلك لأصل البراءة، إذ القضاء يحتاج إلى أمر جديد، وهو مفقود في المقام .

قوله : ( والإسلام )
المعروف أنَّ ما فات الإنسان بسبب الكفر الأصلي لا يجب قضاؤه بعد أن أسلم، وفي المدارك : وأمَّا سقوطه عن الكافر الأصلي فموضع وفاقٍ أيضاً، وفي الأخبار دلالة عليه ...[8]،
وفي الجواهر : بلا خلاف أجده فيه، بل في المنتهى وغيره : الإجماع عليه، بل في المفاتيح : نسبته إلى ضرورة الدين ... [9].
وبالجملة، فإنَّ العمدة في المقام على عدم وجوب القضاء عن الكافر إذا أسلم هو التسالم بين الأعلام، سواء قلنا : بأنَّ الكفار مكلَّفون بالفروع، كما هم مكلفون بالأصول، على ما ذهب إليه المشهور، وهو الصحيح عندنا، وقد ذكرنا الدليل على تكليفهم بالفروع في كتابنا كتاب الحج، فراجع، أم قلنا : بأنَّهم غير مكلَّفين بالفروع .
 نعم، الفرق بين الصورتَيْن هو أنَّه بناءً على تكليفهم بالفروع يكون التسالم على عدم وجوب القضاء استثناء من القاعدة، وهي وجوب القضاء، لثبوت المقتضي للتكليف في حقِّهم .
 وأمَّا بناء على عدم تكليفهم بالفروع فلا يستدلّ لعدم تكليفهم بالقضاء بالتسالم على إخراج الكافر الأصلي، بل يكون نفي القضاء عنهم هو لعدم المقتضي، لأنَّ المقتضي للقضاء هو الفوت، ولا فوت هنا بعد عدم ثبوت التكليف في حقِّ الكافر الأصلي .
 ثمَّ إنَّه قدِ استدل جماعة من الأعلام - منهم صاحب الجواهر - على عدم القضاء بحديث : الإسلام يجب ما قبله، وهذا الحديث وإن تعرضنا له في كتاب الحج، وقلنا : إنَّه ضعيف السند بالإرسال، إلَّا أنَّه لا بأس بإعادة الكلام عنه لما فيه من الفائدة، فنقول : إنَّ هذا الحديث موجود في مصادر العامَّة بمناسبات مختلفة، وأمَّا من مصادرنا فقد ذكر في ثلاث كتب :
 الأول : ما ذكره صاحب عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الإحسائي، مرسَلاً عن النبي صلى الله عليه وآله أنَّه قال الإسلام يجبّ ما قبله[10].
 وفيه أوَّلاً : أنَّه ضعيف بالإرسال .
 وثانياً : ما ذكرناه في أكثر من مناسبة من تساهل صاحب الكتاب في النقل، وقد ذكر في كتابه الغثّ والسَّمين .
 ومن هنا طعن صاحب الحدائق على المؤلِّفِ والمؤلَّف، أي : على الكتاب وصاحبه .
 الثاني : ما رواه ابن شهر آشوب مرسَلاً في المناقب في مَنْ طلَّق زوجته في الشرك تطليقة، وفي الإسلام تطليقتَيْن، قال علي عليه السلام : هدم الإسلام ما كان قبله هي عندك على واحدة [11] [12]، وهو أيضاً ضعيف بالإرسال .
 وأمَّا الإشكال عليه - كما عن السيد الخوئي - : بأنَّه لا إطلاق، أو عموم فيه، حتّى يستدلّ به للمقام، لأنَّ المراد بالموصول - بقرينة صدر الرواية وذيلها - إنَّما هو خصوص الطلاق الواقع حال الشرك، لا كلّ فعل، أو ترك، صدر منه .
 فيرد عليه : أنَّ المورد لا يخصِّص الوارد، فإنَّ كلمة ما الموصولة مطلقة أو عامة تشمل كلّ شيء، وورود الحديث في مورد الطلاق لا يجعله مخصوصاً فيه، كما قرِّر في علم الأصول .
 وعليه، فلولا ضعفه سنداً لصحَّ الاستدلال به .
 وأمَّا قوله  : هو عندك على واحدة أي : إنَّ تمام الطلاق الثلاث حتّى تحرم عليه متوقِّف على تطليقة أخرى .
 الثالث : ما رواه علي بن إبراهيم القميّ في تفسير قوله تعالى : ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا سورة [13]عن أمِّ سلمة في حديثٍ أنَّها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله - في فتح مكة - : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! سَعِد بك جميع الناس إلَّا أخي من بين قريش والعرب، وورددتَ إسلامه، وقبلتَ إسلام النَّاس كلّهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا أمَّ سلمة ! إنَّ أخاكِ كذبني تكذيباً لم يكذِّبني أحد من النَّاس هو الذي قال ﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ... ﴾ إلى قوله: ﴿ كِتَـباً نَّقْرَؤُهُ ﴾، قالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! ألم تقل : إنَّ الإسلام يجب ما قبله ؟! قال : نعم، فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله بإسلامه[14][15]، ولكنه أيضا ضعيف بالإرسال .

 وأمَّا قول السيد أبو القاسم الخوئي : بأنَّه مضافاً إلى ضعف السند فهو مقطوع البطلان، فإنَّه صلى الله عليه وآله أجلّ شأناً من أن لا يعمل بما قاله، أو يعرضه النسيان حتّى تؤاخذه على ذلك أمّ سلمة، فيعدل آنذاك عما فعله أوّلاً، ويقبل إسلام أخي أمّ سلمة.
 فيرد عليه : أنَّ المسألة ليست مسألة نسيان، أو عدم العمل بما قاله، بل الظاهر من الحديث أنَّ أمّ سلمة شفعت لأخيها، فشفع لها، ويظهر من الروايات العامّة أنّ النبي صلى الله عليه وآله حين فتح مكة شفع لكثير من النَّاس كان حقّهم أن يقتلوا، فراجع واقعة فتح مكة تجد صدق ما قلناه .
 والخلاصة إلى هنا : أنَّ هذا الحديث ضعيف سنداً بالإرسال .
 وأمَّا مسألة جبره بعمل المشهور : فقد عرفت أنَّ عملهم غير جابر، مضافاً لعدم ثبوت الصغرى، إذ لم نحرز استناد مشهور المتقدّمين على فتواهم بعدم القضاء عن الكافر الأصلي إلى هذا الحديث .
 ثمّ إنّه لا شبهة في أنّه لو أسلم في دار الحرب وترك الصلاة، أو لم يأتِ بها بحدودها لجهله وجب عليه قضاؤها بعد التعلّم، وإن كان معذوراً في تركها لدى عدم التمكّن من معرفتها كغيره من أفراد الجاهل القاصر الذي فاتته الفرائض لقصوره، وذلك لعموم أدلّة القضاء غير القاصرة عن شمول مثل هذا الفرض، والله العالم .


[1] مدارك الأحكام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج4، ص287.
[2] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج13، ص2.
[3] الذكرى، الشهيد الأول، ص135.
[4] في تاج العروس : وهو بالضّمّ : دَواءٌ يُرْقِدُ شارِبَه ويُنَوِّمُه.
[5] تاج العروس، مرتضى الزبيدي، ج8، ص111.
[6] وسائل الشیعة، شیخ حر عاملی، ج1، ص45، ابواب مقدمة العبادات، باب4، ح11، ط آل البیت.
[7] كتاب الحج : م1 / ص15، حيث قال سماحته : وقد روي حديث - رفع القلم - بطريقين، كل منهما ضعيف، الأول : ما رواه الصدوق في الخصال، وهو ضعيف بجهالة محمد بن عبد الله الحضرمي، وأبي ظبيان، والثاني : ما عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين .عليه السلام، وهو مرسل   انتهى .
[8] مدارك الأحكام، السيد محمد بن علي الموسوي العاملي، ج4، ص289.
[9] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج13، ص6.
[10] مستدرك الوسائل، ج7، ص448، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 15، ح2.
[11] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج40، ص230.
[12] مناقب آل ابي طالب،  ابن شهر آشوب،ج2، ص186.
[13] اسراء/سوره17، آیه90.
[14] مستدرك الوسائل، ج7، ص448، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 15، ح3.
[15] تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ج2، ص27.